وأستخدم تعبير العقل المستقيل هنا, لا بمعناه الفلسفي الذي سبق ان عالجه مفكرون من أمثال المرحوم الجابري والأستاذ طرابيشي, بمعني التوقف عن الاجتهاد., وحلول ثقافة النقل بدلا من أعمال العقل, والاكتفاء بالبيان بديلا للبرهان, والاستجابة لبعض الدعاوي الغنوصية, وإنما استخدمه بمعناه المباشر, الناتج عن الكسل والخمول والعزوف عن التفكير. مما يصيب الأذهان التي تتخلي راضية عن فضيلة العمل المرهق المضني, المعني باستخدام العقل في تأمل ما يعرض لنا من مشاكل حياتية وما يجب أن نمعن فيه النظر والتفكير من حقائق الوجود, والانشغال بالقضايا الفكرية المطروحة علي هذا العقل تفسيرا للواقع ورغبة في تحقيق التقدم وبناء المستقبل الأفضل لأنفسنا واوطاننا ومجتمعاتنا, والاستسلام بدلا من ذلك لثقافة الاجترار والارتهان للقوالب الجاهزة, والركون للأفكار المكرورة وكليشيهاتها المحفوظة الجامدة, واضرب مثلا باستاذ جامعي من اصدقائي تعودت ان اراه يتردد علي المنتديات الثقافية وجلسات الحوار والنقاش التي يعقدها الأدباء في المقاهي, وفي لحظة من لحظات الاحتقان السياسي التي تنتج عنها بعض المضايقات الأمنية لمثل هذه المنتديات والجلسات, كما حدث ذات مرة لاحدي الجلسات الثقافية التي كان يعقدها الراحل الكبير نجيب محفوظ في كازينو الأوبرا في عقد الستينيات, ومنعت الشرطة انعقادها, وجدت هذا الصديق يختفي نهائيا من هذه المنتديات والجلسات التي كانت تتجدد اماكنها, وسألته عندما التقيت به مصادفة عن سبب هذا الاختفاء, فقال في شيء من الغبطة والسعادة, ان الله انجاه من مثل هذه الاهتمامات ذات الطابع الفكري والأدبي والثقافي, ونفرت نفسه من مجالس المثقفين التي لا تجلب إلا مطاردات الشرطة, واهتدي في احدي الطرق الزراعية قريبا من الجامعة الي مجموعة من العمال الزراعيين الأميين, يجلسون في ساعات الأماسي في مدخل احدي المزارع, يسمرون ويضحكون ويلعبون الورق ويتبادلون النكات ويتحلقون حول عالة الشاي لعدة ساعات, فانضم اليهم, مستمتعا بعالمهم البريء, وأستطيع أن أقول دون ظلم أو اجتراء علي احد, انني اعرف كثيرا من الأصدقاء ممن انهوا تحصيلهم في مجال الدراسات العليا, لتصبح لحظة حصولهم علي درجة الدكتوراه هي سقف ما وصلت اليه عقولهم من نشاط ذهني, وفي حين تصبح هذه الشهادة, كما يجب ان تكون, لدي اهل الفكر والحصافة, بداية الطريق لمزيد من التفوق العلمي والثقافة باعتبارها مفتاحا للدراسة العلمية والأسلوب المنهجي في البحث والتفكير, فإنها لدي عدد كبير من الأساتذة الجامعيين بداية التراجع والانحدار في كثير من الأوساط الأكاديمية العربية التي جاءت احصائيات الأممالمتحدة تحرم ايا منها من الحصول علي مكانة لائقة بين جامعات العالم. وادهش احيانا وانا ازور بعض جامعات الأرياف العربية, واقول بعض, وليس كل, وأتأسف لوجود لغة يتكلمها أعضاء هيئة التدريس لا صلة لها بما كنت اتوقعه من لغة ذات مستوي ومحتوي من الاحترام والثقافة, واراها لا تختلف كثيرا عن لغة سوق الثلاثاء ومناقشات الناس في الموالد والأسواق الشعبية, وتصل المحنة الي حدها الأقصي اذا اراد الانسان ان يقارن ما يراه في مجتمعات التقدم واوساطها الجامعية وهيئات تدريسها والحاصلين علي شهادات التخصص العليا من دكتوراه وماجستير فيجد الفروق الهائلة بين الناس التي تشبه الفرق بين مكان تجد فيه المصاعد تتجه في اتجاه واحد الي اعلي, وآخر تركب مصاعده فتجد ان ليس لها من المصاعد إلا الاسم لأنها لا تتجه الا الي اسفل فهي مهابط اذن وليست مصاعد, تهبط باصحابها من سمت التفكير الحر المستقل الي سفوح العقل الخامل المستقيل, وأقصي ما يطمح اليه بتلك الشهادة العالية وظيفة آمنة يجتر فيها درسا مكرورا في واحدة من هذه المؤسسات العلمية التعليمية التي افقدوها بهذا الأسلوب وظيفتها وزيفوا هويتها واحالوها الي مؤسسات جهل وتجهيل بدلا من مؤسسات علم وتعليم. وفي الوقت الذي اقول فيه بأن هناك استثناءات كثيرة ليس فقط علي مستوي الأفراد النوابغ الذين نعرفهم ونقرأ لهم ونري انتاجهم العلمي والفكري, ولكن علي مستوي مؤسسات اكاديمية وجامعية توافرت فيها الجودة وحققت التفوق والمستوي العلمي الراقي لمن ينتمي اليها من الطلاب وهيئة التدريس فإنني ايضا اقول بأن الحالة التي اشير اليها لا يمكن أن تنشأ من فراغ, وان هناك بالتأكيد من معطيات الواقع بما فيه من سلبيات وما ينقصه من مساحات الحرية الخاصة والعامة ما شجع علي وجود بل واستفحال ظاهرة العقل المستقيل حتي اصبحت بهذا الحجم الذي يستحق ان نقرع من اجله نواقيس الخطر والفجيعة.