الخوف.. وما أدراك ما الخوف, عندما يتملك منك تشعر وكأنك تسقط في بئر سحيقة باردة مظلمة, فتظل تصرخ بلا انقطاع وتترقب متي تصطدم بالقاع فتنكسر العظام وتتناثر الاشلاء وينتهي بقسوة كل شيء.. تلك بعض مشاعري التي من حقها ان تقضي علي أي انسان, لولا بصيص الإيمان الذي يضيء الظلمة ويمنع الانهيار. وإن كانت هذه هي حالي الآن فأبدا لم أكن هكذا طيلة حياتي, فقد نشأت طفلة منعمة, لا أرغب في شيء إلا وأحصل عليه.. لا أتمني شيئا إلا وأجده عندي, ومضت سنوات عمري علي هذا المنوال والتحقت بعد الجامعة بوظيفة مرموقة, وتزوجت من رجل فاضل ميسور الحال مثلي, وأنعم علينا الله عز وجل بنعمة الابناء. كان كل شيء جميلا وهادئا, ننتقل من نجاح الي نجاح ومن إنجاز الي آخر دون مشاكل أو عقبات ملحوظة, نتمتع بمحبة الناس وبعلاقات طيبة مع الجميع, نعيش في منزل راق كان بالنسبة لنا أشبه بالقلعة الحصينة التي نشعر داخلها بالأمان.. وياله من شعور مريح مطمئن. وفجأة تغير كل شيء بعد أن فقدنا كل ما نملك دفعة واحدة غدرا وظلما.. تلاشي النجاح.. توقفت الانجازات, وأصبحت المشاكل والعقبات الجسام مثل الأشباح التي تملأ جنبات حياتنا. انتهي الحلم الهادئ واستيقظت علي كابوس الواقع الأليم, كان علينا أن نواجه الكارثة بكل تفاصيلها القبيحة, وتحولنا في يوم وليلة الي عزيز قوم ذل لم يكن لدينا من الوقت ما يسمح لنا باستيعاب وضعنا الجديد, فقد أصبحنا وجها لوجه مع متطلبات وقروض يجب سدادها. عرضنا كل ما نملك للبيع, تجردت تماما من مجوهراتي, طلبنا المساعدة ممن حولنا فشمت بنا وياللفاجعة أقرب الناس.. هؤلاء الذين كنا نغمرهم بحبنا وهدايانا القيمة بمناسبة وبلا مناسبة, وساعدنا آخرون قدر استطاعتهم, وبدأ اخطبوط الديون يمد أذرعه الطويلة القاسية الواحدة تلو الأخري لتعصر أجسادنا, حتي أصبحنا مدينين لمعظم من حولنا, وياليت ذلك قد غير من الأمر شيئا فمازالت المتطلبات والأقساط الشهرية تنتظر السداد. طرقنا أنا وزوجي كل أبواب الرزق للبحث عن عمل إضافي يساعد في تسيير الأمور حتي انهك جسدانا.. وأثناء محاولاتنا المستمرة للنجاة بأسرتنا من هذا الطوفان, وما أن يغلق باب المنزل علنا ان نجد اجابات صادقة مقنعة لأسئلة لا تنتهي من أفواه بريئة صغيرة لا تعي من الأمر شيئا: ليه يامامي سيبنا بيتنا الحلو وجينا في الشقة الوحشة دي؟ فين الحاجات الحلوة الكثيرة اللي كونتو بتجبوها لينا؟ ليه مش بناكل لحم وفراخ؟ ليه عيد ميلادنا مجاش السنة دي؟ ليه بتعملي كل شغل البيت لوحدك فين اللي كانوا بيساعدوكي؟... وأراهم يرفعون أكفهم الصغيرة الي السماء داعين الرحمن مثلما علمتهم بكلمات غير واضحة الأحرف كلما استاءوا من شيء أو رغبوا في شيء. احيانا ابتسم, وفي أحيان أخري لا استطيع السيطرة علي دموعي, أصبحت اتوتر من أقل الأمور وأخاف من كل شيء.. من جرس الهاتف من دق باب البيت, أخاف أن يمرض احدنا فلا نجد الدواء, أن يصبح الصبح فلا نجد طعام الافطار.. تمنيت لو أغرق في سبات عميق لا أصحو منه إلا عندما تتحسن الأمور, ولكن هيهات فالدنيا ليست بهذه البساطة. وبعد سنوات علي هذه الحال قررت التغاضي عما بقي لدي من كبرياء والاتجاه الي بيت مال المسلمين لطلب المساعدة فضحك مني كل من سألتهم وقالوا: مفيش في مصر بيت مال للمسلمين. ان كانت هذه هي الأوجه السوداء لمصيبتي فلعل الصبر الجميل عليها يطهرنا من بعض ذنوبنا أو يثيبنا الله عليها برحمته, وقد علمتني الكثير.. تعلمت ألا اسرف فلا يعلم الغيب الا الله, وتعلمت أن احافظ علي كل نعمة مهما بدت صغيرة أو بسيطة, وأن الدنيا يمكن ان تقسو علي اي احد في أي وقت بلا رحمة, وان المسارعة في الخيرات خير ألف مرة من التباطؤ فيها, وتعلمت ان تقديم المساعدة لايكون ماديا فقط, فالدعم المعنوي والمساندة النفسية مطلوبان في أحيان كثيرة, وتعلمت ألا انخدع بالمظاهر فستار الملابس يواري الكثير وألا أعطي ثقتي الا لمن يستحقها. هذه قصتي للعظة والعبرة, وأسأل رب العزة ان يفرج ما أصابنا من كرب بسلام قبل ان يحدث ما لايحمد عقباه, وقبل ان تصبح بئر الخوف هي المستقر والمأوي. * سيدتي.. لا يعرف معني الخوف الا من يكابده, ولا يحس بألم الحرمان إلا من ذاق الشبع, لذا أحس بمعاناة ووجع كل كلمة في رسالتك الصادقة.. اتلمس عذابك أمام أسئلة الصغار الصعبة, وصدمتك فيمن حولك وممن مددت لهم يدك أو ابتسموا يوما في وجهك عندما كنت تجودين عليهم, وانصرفوا عنك وأداروا لك ظهورهم عندما اشاحت عنك الدنيا بوجهها, لتبقي أنت وزوجك وجها لوجه مع هم الدين وذل في الليل والنهار. سيدتي.. لم تذكري تفاصيل ما حدث لكما وكيف تعرضتما أنت وزوجك للغدر والظلم, ربما خوفا من معرفة من حولكما بما تعانيان, وربما حياء وخجلا, فأنت لم تطلبي شيئا, وفوضت أمرك الي الله متسلحة بالصبر الجميل, فليتك توافيني بما لديك من أوراق لعلي أكون وسيلة للخير أو لرفع الظلم عنكما. وإن كان أشد ما استوقفني في رسالتك الموجعة سطورها الأخيرة, تلك الحكمة التي تأتينا عندما يعم البلاء, ولا أدري لماذا أطل علي وجداني قول رسولنا الكريم اخشوشنوا فان النعمة لا تدوم, فكما تقبل الحياة وتعطي, تدبر وتأخذ وتمنع وتتمنع, وكم هو مؤلم أن نري من حولنا بشرا ينفقون ببذخ ولا يحسبون غدر الأيام ومكرها وفرها, لا يلتفتون الي أن فتاتهم قد يمنح الآخرين حياة.. ويشفي قلوبا أعياها الغضب والحسد. سيدتي.. قبل أن تسألي عن بيت مال المسلمين, دعينا نسأل أولا عن المسلمين وكيف تفرقوا وانعزلوا وانشغلوا بالدنيا, وحتما ومن حسن قولك احساسك بأنك ايضا لم تتحسبي لغدر الأيام فأسرفت فيما بين يديك ليعز عليهم وقت حاجته, ولكن لتبق منك الآن الحكمة وليتنح التأنيب أو العقاب. فلترددي قول سيدنا يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت: لا اله الا انت سبحانك إني كنت من الظالمين وليكن صبرك مفتاحك للفرج, والذي نجح من قبل, بمزيد من الايمان وبالثقة في الله وفي النفس يمكنه ان يعود وينجح من جديد, والأمل كبير فيمن يهديه الله ليرفع عنكما ما بليتما به وليفرج كربكما ويعيد السعادة والهناء لاسرتكما الصغيرة والله علي كل شيء قدير.. والي لقاء قريب بإذن الله.