لم تجد القضايا الكبيرة مكانا في برامج القنوات الفضائية المصرية الخاصة خلال العام2009 إلا لسد فراغ وملء هواء لا يمكن تركه فارغا. فكان حضور هذا النوع من القضايا هو في الأغلب الأعم استثناء من القاعدة العامة. فالاعتقاد السائد لدي القائمين علي هذه البرامج, وخصوصا تلك التي يطلق عليها برامج توك شو هو أن المشاهد ليس معنيا إلا بما صغر من القضايا. وليس مفهوما بعد من أين تسلط عليهم ذلك الاعتقاد إلي حد أنهم حين يتناولون قضايا كبيرة علي سبيل الاستثناء يسعون إلي اختزالها بدعوي تبسيطها للمشاهد. والفرق بين التبسيط الذي يجعل مادة اعلامية أقرب إلي المشاهد وأكثر يسرا, والاختزال الذي يفرغها من مضمونها, يماثل تقريبا المسافة بين القضايا الكبيرة المتعلقة بالحاضر والمستقبل والمسائل الصغيرة التي تعبر عن أكثر ما هو متهافت في واقعنا الاجتماعي السياسي. ليس مفهوما, علي سبيل المثال, لماذا يعتقدون أن المشاهد المصري يختلف عن غيره في بلاد عربية أخري وغير عربية قريبة ظروفها من أوضاعنا, وما الذي جعله هو بالذات أكثر انصرافا عن القضايا الكبيرة مقارنة بغيره في هذه البلاد. ولا يعني ذلك أن القسم الأكبر من مشاهدي البرامج التليفزيونية في مصر مولعون بمناقشة هذه القضايا, أو حتي مقبلين عليها. فالمستوي العام في المجتمع هو بين متوسط وضعيف. وكذلك الحال بالنسبة إلي معدلات الأمل في أن تؤدي مناقشة القضايا الأكبر أو الأكثر أهمية إلي نتائج ملموسة. ولكن هذه الحالة المجتمعية الغالبة ليست مطلقة. فإذا كان أغلب المشاهدين منصرفين عن القضايا الكبيرة, فهناك علي أقل تقدير أقلية يمكن أن تكون مقبلة علي مناقشة مثل هذه القضايا. ولكن برامج القنوات الفضائية تشطب هذا القسم من المجتمع ولا تتوجه إليه, وربما تغفل وجوده أصلا كما يتضح من التقارير التي تقدمها وتتضمن رأي الشارع في موضوع أو آخر. فيأتي هذا الرأي عادة من القسم الأدني معرفة ومشاركة وبطريقة مبتسرة غالبا. ولذلك لا تنطوي مثل هذه التقارير علي فائدة أو قيمة خصوصا وأن الكثير منها حتي لا نقول كلها تصور في موقع واحد وبتعجل شديد يصل إلي حد الاستهانة بأبسط قواعد هذا النوع من التقارير. ولايقل أهمية عن ذلك أن مسئولية الاعلام الفضائي, الذي يفترض أنه متحرر من قيود البث الأرضي, تفرض عليه القيام بدور في الارتقاء بالحوار المجتمعي والاهتمام بالقضايا الأكثر تأثيرا في مستقبل البلاد والعباد. ولا يخلو هذا الدور من جانب تنويري ضمنيا يتعلق برفع مستوي المجتمع علي هذا الصعيد. فالبرامج الحوارية في هذا الزمن ليست مجرد تلبية لما يطلبه المشاهدون, بافتراض أنه ليس بينهم من يتطلع إلي مستوي معقول من الأداء يشمل ضمن ما يتضمنه نوع القضايا التي يدار الحوار حولها. فثمة مسئولية كبيرة لا يصح أن تحجم برامج التوك شو عنها باعتبارها الوسيلة الاعلامية الأسرع في التواصل مع المشاهد صورة وصوتا. وتفرض هذه المسئولية حدا أدني من التوازن, فلا تغيب القضايا الكبيرة إلا استثناء ولا تملأ القضايا الثانوية الهواء كله إلا قليلا. ولكن ماحدث في العام2009, وبدرجة أكبر من أعوام سبقته. هو أن القضايا الثانوية هيمنت علي المشهد الإعلامي الفضائي في مصر, وأن القضايا الكبيرة التي أتيحت لها مساحات قزمية في هذا المشهد طرحت ونوقشت بطريقة صراع الديكة وليس حوار البشر. فالقضايا التي حظيت بالمساحات الأوسع وملأت أكبر قدر من أوقات الهواء في الاعلام الفضائي المصري هي الأكثر إثارة مجتمعيا. كما أن مناقشتها, تماما مثل تغطية أحداثها, ابتعدت في الأغلب الأعم عما يفيد في فهم دلالاتها بشأن الخريطة الاجتماعية وإدراك مغزاها بالنسبة إلي تطور المجتمع واستخلاص دروسها التي قد تساعد في الإحاطة بجانب أو آخر مما حدث للمصريين في العقود الأخيرة. بدأ العام الفضائي بقضية رجل أعمال مشهور وفنانة مغمورة, وانتهت بقضية رجل أعمال آخر أقل وسيدة توصف تارة بأنها حسناء وأخري بأنها طليقة رجل أعمال ثالث ولكنه أمير عربي في الوقت نفسه. وقد اجتمعت في كل من هاتين القضيتين أهم مقومات الإثارة المجتمعية, حيث المال والجنس والقتل والسرقة وقبل ذلك وبعده المغامرات التي تتجاوز خيال كثير ممن تسعي القنوات الفضائية إلي رفع مستوي مشاهدتهم لها عبر اعطاء أولوية قصوي لهذا النوع من القضايا. وربما يكون من مفارقات الاهتمام الفائق بقضيتي هشام طلعت مصطفي ويحيي الكومي في إعلام فضائي خاص أن رجال الأعمال الذين يملكون هذا الاعلام يساهمون في تشويه الصورة السوداء المرسومة لهم. فالطريقة التي قدمت بها القضيتان تزيد صورة رجال الأعمال سوءا, لأنها تعتمد علي الإثارة المجتمعية عبر تحريك الانفعالات وليس العقول. وهذا فضلا عن الضرر البالغ الذي تلحقه بالقانون والقضاء عندما تتحول برامج تليفزيونية إلي ساحات تراشق بين محامين يبحثون عن شهرة أو دعاية مجانية. وعلي امتداد العام المنصرم, وفيما بين القضيتين المثيرتين, حضرت قضية المصرية التي قتلت في المانيا مروة الشربيني, وخصصت لها ساعات طويلة لتغطية وقائعها والتعليق عليها والتباري في إدانة القاتل وعنصريته والبكاء علي المسلمين المكروهين في الغرب والحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد أمتهم وبلادهم وشعوبهم. وقبل أن ينفض مولد هذه القضية, برز موضوع النقاب علي السطح مجددا فأثار جدلا حاميا وشغل الناس لعدة أسابيع قبل أن تحجبه موقعة مصر والجزائر التي بدأت كروية وانتهت كما لو أنها معركة وطنية تضاف إلي سجل معارك خالدة في التاريخ. والملاحظ أن القضايا الثقافية التي لا تخلو من إثارة مجتمعية لم يحضر بعضها في هذا الاعلام إلا لماما, بينما لم يحظ ما حضر منها باهتمام مماثل. ومن ذلك مثلا المعركة التي أثارتها رواية عزازيل بعد اتهام مؤلفها بالاساءة إلي الدين المسيحي, ومعركة جوائز الدولة التي فجرها اتهام اثنين من الحاصلين عليها بازدراء الدين الاسلامي والمطالبة بسحب الجائزة من كل منهما. فلهذا النوع من القضايا عمق يصعب استئصاله, وخلفية لا يسهل اختزالها علي نحو يفرغها من مضمونها لأن هذا المضمون هو مصدر الإثارة فيها. وقضايا هذا شأنها ليست مما يحظي بأولوية في الاعلام الفضائي الذي يبحث عما يسهل تقديمه ويقل الجهد المبذول فيه, وليس فقط عما يزداد إقبال القسم الأكبر من المجتمع عليه.