1 الخطابات نوعان, خطابات عادية وهي الغالبة, وأخري مسجلة في الأحياء الشعبية قد يسلم الخطاب العادي إلي صاحبه, أو إلي جار صاحبه, أو البقال, أو الخضري القريب, أو من يتصادف وجوده. أما الخطاب المسجل, في الحي الشعبي. فلا يسلم إلا لصاحبه, بعد الإطلاع علي بطاقته, وإن أمكن التجاوز في بعض الأحوال التي لا يوحي فيها الخطاب بشئ, من الخطر, قد يسلم في هذه الحالة إلي الزوجة أو أحد الأبناء أو ما شابه. 2 في الأحياء الراقية يختلف الأمر تماما. الخطابات العادية والمطبوعات توضع في الصناديق الخاصة الموجودة بحوش المبني, أو الي البواب, أما الخطابات المسجلة فهي لا تسلم إلي أصحابها المباشرين, أصحاب الاسماء المكتوبة علي العناوين. صحيح أنك تصعد الي الشقة وتضغط الجرس ويخرج لك السفرجي أو الخادمة, هي تتناول منك الخطاب والايصال والقلم. تعود به موقعا دون ان تعرف أبدا من الذي وقع. وتأخذ أشياءك وتنصرف. بعض هؤلاء الميسورين قد يطلب منك أن توقع بدلا منه وتتركه بالصندوق كأنه أحد الخطابات العادية, وأنت تعتبر ذلك نوعا من الثقة, والبعض قد يطلب منك حزمة من الايصالات يوقعها سلفا. وكلما وصله خطاب مسجل, استخدمت أنت ايصالا واحتفظت بالباقي. هذه الايصالات شرائط مصمغة من الخلف, عند عودتك الي المكتب يسلمونك الدفتر التي قيدت به أ سماء أصحابها وعناوينهم في خانات متعاقبة, وأنت تلصق كل إيصال يحمل التوقيع في الخانة التي أمام اسمه. 3 في تلك الأيام لم تكن قصر الدوبارة ازدحمت تماما بهذه الفئات من الأثرياء الجدد. وكان بوسعك أن تجد من يخبرك أن هذا الرجل الذي هناك هو أحد الباشوات القدامي. جعفر باشا عمران لم يكن باشا حقيقيا, بل أحد هؤلاء الأثرياء. برغم صغر سنه نسبيا كان يمتلك مجموعة كبيرة من الشركات والمشروعات العقارية وغيرها. كلما غادر يثير الجلبة بين العمارات. كان يستمتع بإزالة الفوارق بينه وبين من يصادفهم أثناء خروجه. لا يكف عن مداعبة البوابين والخدم وبنات الصيدلية والفكهاني. بينما رجال حرسه يضعونه تحت عنايتهم من بعيد, والعربة تتبعه عن قرب. يتناول حبات الفاكهة المرصوصة ويشمها: عاملة إيه المانجة دي ؟ ويلقي بالحبة فوق القفص ويلتفت إلي سعيد ألمونيا, البدين الأسمر الذي يستضيفني في أعياد الميلاد السرية ويتبعه مثل ظله, ويقول خد شوية طلعهم. وهو ما أن يلمحني حتي يصيح: إيه أسعار البوستة اليومين دول؟ وينفجر ضاحكا, يتحرك في ثياب شبابية واسعة, ويسرع فجأة إلي باب العربة المفتوح, ما أن يغلق وراءه حتي تتبعه عربة أخري تحمل رجال حراسته. وهو كان أحد الذين طلبوا لي أن أوقع بدلا منهم إذا ما وصل خطاب سجل وأضعه مع الخطابات العادية. وكان سعيد ينظر الي ضاحكا ويقول: أصل أنا معاه أيام ما كان بيركب المازدا. 4 لم يكن الباشا يفعل هكذا أبدا. إنه يمشي متواريا ناظرا أمامه في بدلة كاملة من الصوف الإنجليزي شتاء, أو الكتان الأبيض أو السمني صيفا. متقدم في العمر وثيابه محبوكة وفي جيبه العلوي منديل. وكان يقف في المصعد وقد أعطي ظهره الي المرأة ووجهه الي المدخل, بينما وقفت أنا في الناحية اليسري وفي يدي بعض الخطابات. وهو التفت ناحيتي التفاتة خفيفة وفي صوت سمعته بالكاد, سألني بجدية: بيدوك كام؟ كنت أتقاضي نحو تسعة جنيهات, وقلت: خمستاشر. قال: بيكفوك ؟ قلت: يعني. هز رأسه, ونظر أمامه. 5 مرة أخري كنت أستخدم السلم في النزول. وبينما كنت في طريقي إلي الطرقة التي تتقابل فيها أبواب الشقق المغلقة, رأيت أمامي في العتمة الخفيفة, أحد هؤلاء الباشوات وهو يتكئ بركبتيه علي المشاية أمام المدخل الموارب, كان الروب النبيتي مفتوحا حول ركبتيه وهو يضع أمامه عدة تليفون سوداء سماعتها ملقاة إلي جوارها, وفي يده ماسورة قصيرة من الحديد, كان يدفعها ويضرب بها عدة التليفون ويحاول تكسيرها. عندما عبرت أمامه بهدوء, وانحرفت أمام أبواب المصاعد المغلقة لكي أواصل نزولي, لاحظت أن العدة, برغم الضرب, ظلت سليمة لم تنكسر. وللكلام بقية