تساءلنا في لقائنا السابق عن أسباب قصور مصر في مجال التحرك علي طريق تنفيذ مشروع تعمير سيناء, يدا في يد مع مشروع تعمير الصحراء الغربية وذلك لحظة صعود خطر نقص المياه القادمة لنا من دول منبع النيل في قلب إفريقيا. أهو عيب في المشروع, أم أنه ضعف في أداة الحراك والتنفيذ؟ الواضح أن تحديد أولويات مجموعة عناصر مشروع مصر القومي الكبير تتجه إلي نقطة ضعف واضحة, ألا وهي أداة الحراك والتنفيذ. وهذه الأداة تتكون من عنصرين رئيسيين دائرة القرار, أي الادارة, وروافد تحريك هذه الادارة, إن مقام ومكانة الادارة, أمور واضحة للعيان منذ القدم, تغوص أركانها في أعماق تاريخ الدولة المركزية لحضارتنا السبع ألفية عبر عصورها المختلفة. ولكن الادارة ليست كيانا جامدا مجردا إذ أنها تعمل علي الحفاظ علي المركزية والوحدة والاتصال آخذة في الاعتبار مطالب وقدرات القوي الاجتماعية المكونة للأمة. وذلك في إطار جيد سياسي طالما كان مؤثرا بشكل لافت علي تحرك مصر. بقي موضوع الطلائع أو الكوادر الذين يترجمون هذه المعطيات ويخططون السياسات وكيفية التنفيذ وإيقاع التحرك. وهنا ربما تكمن الدائرة المغلقة في البحث عن الركود. هناك شيء ما غير سوي إلي حد دفع بعض المفكرين ان يتساءلوا مع د.وحيد عبدالمجيد: هل توجد نخبة في مصر؟( الأهرام2010/5/4). يقول الكاتب: هناك ضعف متزايد في المتوسط العام لأداء النخبة ومعارفها وقدرتها علي إنتاج الأفكار وتقديم النماذج المضيئة. يلحظ الكاتب توسع اهتمام أعداد متزايدة من الجمهور بالمجال العام. ثم يضيف أنه ليس في معرفة كثير ممن يعتبرون نخبة, ولا في أدائهم وطريقة تفكيرهم, ما يميزهم من عامة الناس.. كل منهم مشغول بالنفع الذي يعود عليه من عمله العام سواء كان معنويا أو ماديا. ثم يتجه الكاتب إلي مسألة النخبة في مجال الأحزاب السياسية يري إن النخبة من الأحزاب السياسية عجزت عن احتواء الآثار السلبية للحصار الذي فرض عليها لفترة طويلة.. بحيث تعجز هذه الأحزاب الآن عن إنتاج من يمكن اعتبارهم قادة الرأي العام. كما يري أن الحزب الوطني بدوره غير قادر علي انتاج هذه النخبة بسبب التباس موقعه في نظام الحكم وأخيرا وليس آخرا يتجه الكاتب إلي ورشة تكوين الكادر, أي الجامعة: إن تجفيف منابع السياسة في الجامعات أغلق أحد أهم معامل تكوين النخبة إلي أن يختتم تحليله الذي هو بمثابة تشخيص لأزمة النخبة بكلمات تتصل في العمق بتساؤل د.مصطفي الفقي: ينبغي أن يكون ضعف مستوي وقدرات وإمكانات النخبة المصرية ضمن همومنا الراهنة, فمن الصعب أن يحقق أي إصلاح المرجو منه في غياب نخبة قادرة علي حمل مشروع المستقبل. ما العمل أمام هذا الكم الهائل من التحديات والتساؤلات؟ من أين نبدأ؟ 1 نتساءل: من أين غياب الرؤية؟ من أين خلط الأولويات؟ من أين تدهور مستوي الفكر والعمل المسئول؟ مدخل أول يتطرق إلي صياغة فئة أصحاب الرأي والقرار منذ عدة عقود. التاريخ يعلمنا أن: محمد علي باشا الكبير اتجه إلي تكوين جهاز الادارة من صفوة علماء ومفكري مصر من أعضاء البعثات في الخارج باشراف رفاعة الطهطاوي وزملائه في مختلف قطاعات الدولة الجديدة. الجو السائد أثناء إنجاز هذه العملية التاريخية المتحضرة الكبري, إذا كان هو الامتياز في مجال العلم والمعرفة وإتقان الأداء والقدرة علي مواجهة المعضلات وتقديم الحلول والمبادرة في اقتحام التحديات بإقدام وشجاعة وثقة. اتصل الأمر علي هذا النحو بدرجات متفاوتة بعد الاحتلال البريطاني وانتعش أثناء ثورات مصر من1881 لسنة1919, ثم1936 حتي1952. حتي استقر نظام تكوين طلائع المجتمع والأحزاب بدءا من إنشاء الجامعة المصرية ونظام التعليم العصري وازدهار الحياة السياسية في ظل دستور1923 رغم انتكاسات مرحلية ولما اشتدت التحديات, رأي عدد من قادة حركة23 يوليو أن يأخذوا بفكرة الاعتماد علي نوع جديد من الكادر أطلق عليه تسمية أهل الكفاءة في مقابل أهل الثقة أين كوادر الطبقات التقليدية للمجتمع الحديث والمعاصر, وفي طليعتهم المثقفون, ورغم هذه الثغرة استطاعت القيادة أن تحدد مشروعا قوميا كبيرا حول تأميم قناة السويس وتوسيع رقعة التحرك المصري إلي دوائر تعدت محور النيل, وذلك بفضل تضحيات وإصرار كوادر الجبهة الوطنية المتحدة. وكان من جراء الحروب أن رأت القيادة أن تقبل بشروط تسوية معاهدة كامب ديفيد(1978) علي أساس أن الولاياتالمتحدة تمتلك99% من أوراق اللعبة, وأنه بالتالي يمكن الاعتماد علي المعونة الخارجية وعوائد العمالة في دول الثراء الجديد بدلا من التركيز علي الانتاج الوطني وقيادته المركزية. كان هذا هو أساس انتشار أفكار الليبرالية الجديدة السوقية وسيادة المنفعة الشخصية والسوق. 2 أصاب هذا التحول الجذري الدائرة الحيوية المركزية العميقة لتكوين الطلائع المصرية, ألا وهي ساحة حرية العمل السياسي يدا في يد مع تدني مستوي التعليم, خاصة الجامعة. نذكر مثلا أن جامعة فؤاد الأول( القاهرة) الآن كانت إحدي الجامعات العشر الأولي في العالم عام1940. ومن قلب هذه الجامعة وشقيقتها في الإسكندرية, نبعت عناصر القيادة المنتخبة الشعبية الأولي في تاريخ الحركة الوطنية ألا وهي الحركة الوطنية للعمال والطلبة في ربيع1946 يدا في يد مع أبرز طلائع الحركة النقابية المصرية. لا داعي للإمعان في المقارنة. إن تردي مستوي طلائع الأحزاب المصرية يوازي تردي مستوي الجامعات في معظم الأحيان. وهذا يدفع الوطنيين دون استثناء إلي واجب التفكير في كيفية إصلاح الحال, وإصلاح الحال يتجه إلي الجمع بين مراجعة مضمون التعليم الجامعي ووسائل الإعلام الرئيسية من ناحية, وبعث الحركية والحيوية إلي النشاط السياسي من أوسع الأبواب بما في ذلك الجامعات. 3 مجموع التحرك الذي نراه لازما ونافعا يتم في محيط لم يعد ذلك الذي فرضته علينا موازين الهيمنة منذ ثلاثة عقود. نحن في قلب عالم يتغير. ولكن إدراك إيقاع تغيير العالم وامتداده إلي صياغة العالم الجديد مازال ينقصنا. وبالتالي فإن الاكتفاء بما تتيحه الامكانات التقليدية النابعة من دوائر التأثير المهيمنة علي منطقتنا لا يمكن أن يكون تربة صالحة لتكوين الطلائع الجديدة التي لولاها لا يمكن صياغة مشروع قومي جديد. وبطبيعة الأمر فإن ما هو قائم سيظل مؤثرا. ولكن المهم هو العمل علي تأسيس قواعد مستقلة للعلم والمعرفة وإدراك عالم جديد تصب في تكوين قطاع واسع من شباب الطلائع الجديد. قال صاحبي: أفهم من كلامك أنك من المؤمنين بحكمة الأقدمين التي تؤكد أن الأزمة تمثل أيضا وفي الوقت ذاته تحديا يفتح أمامنا أبواب الأمل.. الأمل وكذا العزيمة: أن نعرف طريقنا إلي تعبئة الهمم من أجل اقتحام المستقبل!...