شئ ماينقصنا لمواجهة التحدي الأعظم, ألا وهو تهديد النيل من الجنوب وأراضي الدلتا من الشمال, شئ ما لعله أداة مفقودة.. نطالع يوميا التصريحات الرسمية المطمئنة بين صخب من الانفعالات الي حد التهديد. وكأن امتنا المصرية تصحو, فجأة علي أن النيل شأن يعني درجات متفاوتة من الأهمية في بلاد المنبع والمسار والمصب, وإن كانت دولتا وادي النيل نحو المصب, مصر والسودان, تعلم في أعماق وجدانها وتاريخها ان النيل هو الحياة بكل معاني الكلم, وان تعبير هيرودتس ان مصر هبة النيل ليس لفتة أدبية وانما هو تعبير عن الشرط الحيوي لاستمرار الحياة في ديارنا المحروسة. ومن هنا كان مدخلنا في لقائنا السابق الي مواجهة هذا التحدي الحيوي الخطر الذي يقدم الدليل القاطع الذي لاجدال عليه لدعوتنا الي أهمية أن تعيد مصر ترتيب أوراقها بكل معاني الكلمة وليس بشكل مجازي أو خطابي أو أيديولوجي, وقد أشار جميع الكتاب الي أهمية دور إسرائيل في محاصرة منابع النيل لصالحها وتهديد ايرادتنا القومية السيادية الحيوية ثم تطرقنا الي دور الولاياتالمتحدة, ومعها مجموعة دول حلف الاطلنطي, في التوغل من جديد الي إفريقيا وذلك لمواجهة دور الصين المتصاعد مع مجموعة واسعة من دول إفريقيا بغية الحصول علي مواد خام في مقابل إقامة البنية التحتية العصرية علي شواطئ وفي أعماق القارة السوداء. ومنذ لقائنا الأخير, تعددت كتابات الزملاء وكلها تتجه الي تأكيد اننا أمام تهديد حيوي لوجدنا المجتمعي والقومي, وقد لخص الاستاذ حسين عبد الرازق حرب المياه في حوض النيل في دراسة دقيقة شاملة( الأهالي2010/5/5) تناول فيه مطالبة اسرائيل بحصة من مياه النيل ومعه رئيس أوغندا يطالب بوضع حد للمواقف الأنانية لمصر, وكينيا تطالب مصر بشراء ماء النيل من دول المنبع, في مقابل تفاؤل غريب للمسئولين في مصر, وغياب مصري عن افريقيا وتراجع وزن مصر في القارة, وقد أكد هذه المعاني الغالبية العظمي من الكتاب في الاعلام المصري, وفي مقدمتهم رئيس مركز الدراسات الافريقية والعربية الدكتور حلمي شعراوي: المسائل الافريقية لاتعالج منعزلة عن بعضها, لأن معالجة قضية وزن مصر في حوض النيل لايمكن فصلها عن وجودها العام في الاتحاد الافريقي الشروق2010/4/25 بينما يري الاستاذ فهمي هويدي في دراسته اللاعبون والمتفرجون في حوض النيل ثمة145 معاهدة عالمية حول موضوع المياه, لم تحل الخلافات التي تثور بين أطرافها أو تحسمها تماما, مع ذلك لم يحدث ان كانت المياه وحدها سببا مباشرا للحرب فيما بين الدول ثم يقدم قائمة بساحات الخلاف: العوامل النفسية وخاصة استعلاء مصر في التعامل مع الأفارقة, وشعور شعوب دول المنبع بحاجتها الي نصيب من المياه لمواجهة التخلف والفقر والمرض, مؤكدا ولاشك ان الإسهام المصري في تنمية تلك المجتمعات وتوفير مايمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لايبدد تلك المشاعر فحسب, ولكنه ايضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية التي نحن بصددها( الشروق2010/4/27). وقد تطرق الدكتور محمد قدري سعيد الي افريكوم قيادة افريقيا الأمريكية التي تأسست في يوليو2008 بقيادة الجنرال وليم ورد ومركز قيادته بمدينة شتوتجارت بألمانيا( الأهرام2010/4/24, تضم القيادة الجديدة53 دولة افريقية باستثناء مصر وتعلن ان اهدافها ثلاث: الحرب ضد الارهاب, جيوسياسة النفط بالاعتماد علي خليج غينيا الي تقليل الاعتماد علي احتياطي الشرق الأوسط, ومواجهة المنافسة الاقتصادية وذلك بواسطة اقامة قواعد للانتشار المستقبلي للولايات المتحدة في مواجهة صعود النفوذ الصيني في القارة الافريقية بدءا من2004, وتؤكد موسوعة ويكبيديا أن افريكوم قيادة الولاياتالمتحدة الافريقية, هي الوحيدة التي لاتتمركز قيادتها في الساحة المعنية أي افريقيا علي عكس جميع القيادات الأمريكية للمناطق الأخري ربما لأن الادارة الأمريكية لاتستشعر حاجة الي التشاور مع الدول الافريقية المعنية. تتوالي الأحداث.. المخاطر تتزايد دون هوادة, وكأن النيل يعود الي مكانته المركزية في قلب اهتمامات مصر الحيوية, بعد انحرافنا من أهم حاجاتنا الحيوية الي دوائر أخري. جنوب السودان أوشك أن ينفصل, الصدامات المسلحة بين مختلف القبائل في الجنوب تتفجر. دائرة منابع النيل في جنوبالوادي دخلت مساحة الزوابع, ثم تنحدر علينا مسألة حلايب المصرية التي اكتشفت حكومة السودان الشقيق, فجأة أنها أرض سودانية. وفي هذا الجو المشحون بالتهديدات والمخاطر ترتفع أصوات لعرض أفكار علي طريق جديد ممكن. منذ فترة, دعاني د/ مصطفي الفقي مشكورا الي الالتفات الي مشروعين وطنيين, وذلك لوضع حد لما يطلق عليه غياب المشروع القومي أي التقصير في حشد الأجيال الجديدة صوب هدف مشترك يحفز الهمم ويقوي الشعور بالانتماء ويدفع نحو آفاق مستقبلية واعدة, ويتذكر الناس سنوات الحماس التي صاحبت ذلك المشروع القومي, ويشير هنا بطبيعة الأمر الي بناء السد العالي الذي فتح الطريق الي رحلة من الحروب والتضحيات والبذل بلغت قمتها في عبور أكتوبر1973. ثم أشار الكاتب علي وجه التحديد إلي رؤية الدكتور حسام بدراوي المتكاملة لتنمية ضفتي قناة السويس وتحويلها إلي مجتمعات نامية فيها الصناعة والسياحة والزراعة وتجارة الترانزيت وبيع الخدمات, إنها فكرة أو مشروع تعمير سيناء أرض الفيروز الذي لم ينزو أبدا, لم ينزو, ولكنه لم يتحقق. تساءل الكاتب عن أسباب هذا الموقف الغريب, الذي هو حقيقة لاموقف, رغم شبه إجماع الرأي الوطني وعمق الشعور المؤيد للتحرك, ولكن: لا حركة, بل إن سيناء مازالت خالية بلا سكان ولاتعمير مفتوحة أمام الأطماع. الحديث يتصل عن رفع مستوي التعامل مع بدو سيناء وهم جزء عزيز من شعب الوطن, وكذا تتراكم الدراسات عن امكانات هائلة, مثل إقامة مناطق اقتصادية حرة تربط بين الانتاج المصري وشبكة التصنيع والتكنولوجيا المشتركة والتكامل مع مراكز الاقتصاد العالمي الطالع. ثم يضيف د.مصطفي الفقي مشكورا مشروعا قوميا مواكبا ألا وهو إزالة ألغام صحرائنا الغربية, وهي المساحة التي تمثل خمس الخريطة المصرية, والتي يمكن أن تتحول إلي ساحة انتاج وثراء, بينما هي اليوم مهجورة بسبب الألغام وعدم الاكتراث( الأهرام2010/5/4) ليس هذه أول مرة يتطرق فيها الفكر العربي إلي مسألة المشروع القومي بطبيعة الأمر إنها مساحة شاهدت اسهامات مهمة, وبعضها قائمة حقيقة كما شاهدناه في مشروع احياء النيل بصفته باعثا لتحرك مصر المستقبلي. عبر رسالة عالم مصر الكبير الدكتور رشدي سعيد مما يقودنا إلي شروط ظهور المشروع القومي. أهي مجرد اجتهادات طليعية لمفكرين أو ساسة مرموقين أم أن هناك ظروفا موضوعية يحددها تحرك المجتمع في لحظة تاريخية تفتح أمام الارادة والعمل التجديدي الفاتح قنوات الانطلاق. موضوع واسع يحتاج إلي التعمق والبحث الجاد. هل من يعنيه الأمر لابد من طاقم علمي وفكري يدرك تشابك احوال مصر واحتياجاتها في العمق مع ما تقدمه مرحلة صياغة العالم الجديد التي نحياها من تجارب وريادات من نوع جديد, خاصة علي الساحة الواسعة من عالم الجنوب والشرق الحضاري الذي دفعت به موازين القوي إلي الهوامش. قد يكون من المفيد, مثلا التركيز أولا علي حالة مرموقة يمكن دراستها من جميع النواحي, دون اثارة حساسيات أو حقائق, ولذا أنصح أن يختار طاقم الباحثين والمفكرين مشروع مصر خلال نهضتنا في عصر محمد علي: كيف كانت اللحظة التاريخية العالمية؟ كيف أمكن تعبئة الطاقة المصرية المتاحة, وخاصة تكوين طلائع عصرية تمثل كادر الدولة الجديد بأي منهج فكري تري استطاعت القيادة ان تبدع أول جبهة وطنية مصرية جمعت بين شعب مصر الحضارة وجيش الوطن الناهض فكانت نهضة مصر الفاتحة الرائدة التي أوكل امبراطور اليابان الكبير ما يجيي الي لجنة خاصة مهمة دراستها وهو يتطلع الي نهضة اليابان الكبري عام.1868 قال صاحبي: يا أخي.. ياأخي.. من محمد علي الي اليابان دفعة واحدة؟ كل هذا بمناسبة النيل؟ أفهم من كلامك أن الحفاظ علي مياه النيل عصب حياة مصر, يفرض علينا فرضا ان نفتح ملف المشروع القومي الغائب دون تردد من أوسع الأبواب أليس كذلك؟ أراك تبتسم.. المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك