يأتى هذا المقال فى سياق مناسبتين مهمتين إحداهما: ذكرى مرور ثمانية وخمسين عاماً على قيام ثورة يوليو المجيدة. والأخري: الاعداد للمؤتمر العام للمثقفين المزمع عقده في أواخر نوفمبر من هذا العام, مستهدفين منه إلقاء الضوء علي الدور الثقافي لثورة يوليو,وما يكشف عنه إيجابيات وسلبيات قد تفيد في توجهات وأعمال المؤتمر المشار إليه. ونستهل ما نود طرحه بالإشارة إلي أن البداية الحقيقية للدور الثقافي لثورة يوليو يرتبط بإنشاء أول وزارة للثقافة في مصر, عام1958 م, صحيح كانت هناك وزارة للإرشاد القومي, ولكن مهمتها كانت محصورة في الدعوة لمبادئ الثورة والتعريف ببرامجها, واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية, إلي جانب الاهتمام ببعض الأمور الثقافية, خاصة في مجال الفنون. أما إنشاء وزارة للثقافة فكان يشكل كما يقول د. ثروت عكاشة أول وزير يتولي مسئوليتها إيذانا بإقدام الثورة علي بذل جهد واع ومخطط من أجل استثمار جهود المثقفين وتوظيفها في إكساب مبادئها وما تقوم به من إنجازات في كل الميادين والمجالات الأبعاد الثقافية, ولقد وجدت هذه الجهود يقول ثروت عكاشة الدعم اللازم من جمال عبد الناصر, من منطلق إيمانه العميق بأهمية الثقافة ودورها, وأنها تؤدي في مجال الفكر والوجدان, وبناء الإنسان, ما يؤديه التصنيع الثقيل في قطاع الصناعة. ولتوظيف هذه الجهود, وتحقيق الأهداف التي كانت تنشدها وزارة الثقافة تم عقد مؤتمر عام للمثقفين والفنانين في مارس1959 م, وفي هذا المؤتمر تم وضع المبادئ والتوجهات لتحقيق أهدافها المنشودة. ومن خلال هذا المؤتمر بمبادئه وتوجهاته,وفي إطار مفهوم التنمية الشاملة الذي كانت تعمل من خلال ثورة يوليو, يمكن استخلاص مجموعة من الأسس والمبادئ التي كانت تشكل فلسفة الثورة في تعاملها مع قضية الثقافة. وحددت وبدرجة كبيرة دورها في هذا المجال. وتتلخص هذه المبادئ والأسس في الآتي: 1 الأخذ بالمفهوم الواسع للثقافة, حيث لم تقف في عهد الثورة كما يقول محمود العالم عند حد ما يسمي بالآداب والفنون, وإنما امتدت لتشمل مختلف المفاهيم والألوان الأخري: العلمية والفلسفية والسياسية والاجتماعية وانبثاق هذه المفاهيم والألوان من المشاريع الكبري السياسية والمعارك التي خاضتها الثورة علي كل الجبهات, وفي كل الميادين والمجالات, ومن ثم تنوعت الأنشطة الثقافية. 2 الأخذ بمفهوم التنمية الثقافية باعتبارها أحد أهم مجالات التنمية بمفهومها الشامل: اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا, إيمانا بأهمية الثقافة في كل هذه المجالات, وباعتبارها المحفز للبشر للتضامن والارتقاء بمستوي رفاهيتهم, وقدرتهم علي مواجهة تحديات العصر وتجدر الإشارة هنا إلي أن مثل هذا الفهم للثقافة هو ما استقر عليه الفكر المعاصر, حيث باتت المهيمنة علي كل ما عداها من أنشطة, فكل شيء بات يحمل صفة ثقافة. 3 تحقيق العدل الثقافي إن جاز هذا التعبير أوبتعبير ثروت عكاشة تحقيق تكافؤ الفرص في المجال الثقافي بين جميع فئات وطبقات المجتمع للارتقاء بمستوي الجماهير,ولتتحول الثقافة من مجرد المتعة الذهنية والوجدانية إلي عامل فعال ومؤثر في بناء الإنسان, وتشكيل وعيه ووجدانه, ومن ثم تحويله إلي طاقة فعالة في تحقيق التنمية الشاملة. وبهذا استطاعت الثورة كما يقول رجاء النقاش توسيع قاعدة المستفيدين من الثقافة, والمستهلكين لها من كل الفئات والطبقات, دون الاقتصار علي فئة أو طبقة معينة, أو علي العاصمة وحدها, دون غيرها من المناطق في الريف والحضر. 4 قومية الثقافة وقدرتها علي التعبير عن الخصائص الفريدة للشعب المصري, وعن تجاربه عبر التاريخ, وأن تعكس كما يقول د. ثروت عكاشة بأشكالها وأدواتها ووسائل تعبيرها وليس فقط مضامينها والملامح الحقيقية للشعب. لكن وفي الوقت نفسه الإفادة من الآخرين ومن التقدم العلمي والتكنولوجي, وهذا ما أدركته وزارة الثقافة في العهد الثوري عندما قامت بتنفيذ مشروع الصوت والضوء بأهرامات الجيزة والقلعة والكرنك. وبهذا وغيره يقول رجاء النقاش انتقلت الثقافة في مجال الآثار الي مستوي العالمية. 5 الإيمان بوحدة الثقافة العربية, وأنها ذات وظيفة توحيدية بين أبناء الأمة العربية, وأنه لاتعارض بين الحفاظ علي مصرية الثقافة وعروبتها, كما أنه لايوجد تعارض بين الحفاظ علي الخصوصيات الثقافية والتفاعل مع الثقافة العالمية. ومن ثم استطاعت الثورة كما يقول محمود العالم التوفيق بين خصوصية الثقافة المصرية وبين الثقافة العربية من جهة والمعاصرة من جهة أخري. إلي آخر هذه المباديء والتوجهات التي حددت الدور الثقافي لثورة يوليو, وما حققته من انجازات يأتي في مقدمتها: وضع الأساس العلمي الراسخ للحركة الثقافية من خلال إقامة المعاهد العلمية العليا, والتي تحولت فيما بعد إلي اكاديمية الفنون, وهو عمل كما يقول رجاء النقاش غير مسبوق في تاريخ العمل الثقافي في مصر والوطن العربي كله. إلي جانب إقامة القصور الثقافية وانتشار قوافلها في الريف المصري, وتطوير الثقافة الإقليمية وانشاء عشرات المؤسسات الثقافية والمسرحية والنقابات في مختلف المجالات الفنية. إلي جانب مشاريع التعريب لعشرات الروايات العالمية, ومشاريع الكتب الثقافية والعلمية. وغيرها مما نباهي ونفاخر به حتي يومنا هذا, وتشكل أساس حياتنا الثقافية المعاصرة, بل وتحتوي علي عشرات الدروس التي يمكن الإفادة منها في وضع تصورات وتوصيات مؤتمر المثقفين المزمع عقده في نوفمبر القادم.