ما كان لي أن أصير كاتبا لو لم يكن الشيخ محمد زيدان عسر أحد أهم الشخصيات التي عمرت بها أيام طفولتي وصباي, من منتصف أربعينيات القرن العشرين إلي منتصف خمسينياته, وفي بلدتنا شباس عمير التابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ ينطقون حرف السين في عسر مغلظة فتتحول إلي صاد عصر, أما عائلة عسر فإنها من أقدم العائلات في بلدتنا, من أعيان الطبقة المتوسطة الزراعية. إلا أن أراضيها موزعة علي عدد كبير جدا من أفرادها الذين شكلت بيوتهم حارة بأكملها ممتدة في الطول وفي العمق علي مساحات كبيرة, ولهم جامع في حيهم اسمه جامع العصاروة, عمره يرجع إلي أوائل القرن العشرين تقريبا, ويقال إنهم تبرعوا بالأرض وأسهموا في البناء, من الواضح أن هذا صحيح لأن الجامع في حضن دورهم الملتصقة به والملتقة حوله. يقال كذلك إنهم من أصول تنتمي إلي قبائل عربية مهاجرة من الجزيرة العربية, أو ربما من اليمن, جمعت بطونها بين اللونين الأسود القاطع والأبيض الشاهق, وما بينهما من درجات متباينة متفاوتة بين اللونين, والواقع أن بلدتنا كلها يرجع معظم أهاليها إلي أصول عربية: سعودية يمنية سورية مغاربية بدوية سودانية أمازيغية, فيما عدا الأقباط سكانها الأصليون وكانوا عددا يعتد به بين سكان البلدة. وشأن عموم الطبقة المتوسطة الزراعية اتجهت عائلة عسر إلي طلب العلم لتستكمل العزة والفضائل, فألحقت الكثيرين من أبنائها بالمدارس والمعاهد الدينية حينما كانت المدارس والمعاهد لاتوجد إلا في المدن البعيدة يتكلف الذهاب إليها والإقامة فيها أموالا طائلة, ناهيك عن أن التعليم كان آنذاك بمصروفات كبيرة يدفعها ولي أمر الطالب كرسوم التحاق إلي وزارة المعارف العمومية, وفي جيل ثلاثينيات القرن العشرين كان منهم المهندس الزراعي, والمأذون حامل عالمية الأزهر, إلي عدد كبير ممن حصلوا علي دبلومات فنية, وممن درسوا في المعاهد حتي حصلوا علي ابتدائية أو ثانوية الأزهر, وبقوا مع ذلك في البلدة يباشرون الزراعة في هيئة رجال فضلاء يتميزون بالدماثة والورع, ويحملون لقب الشيخ وإن لم يلبسوا العمامة والجبة. من هؤلاء كان الشيخ محمد زيدان عسر.. حصل علي ابتدائية الأزهر من معهد دسوق الديني, لم تكن تؤهله لوظيفة ذات شأن, ففضل أن يعيش بلا وظيفة علي ريع قطعة أرض زراعية ورثها عن أبيه ويفلحها أحد أقاربه, وكان أبوه الشيخ زيدان عسر قد تزوج علي أم الشيخ محمد ذات البشرة السمراء في لون الشعير, من سيدة طيبة القلب جدا ذات بشرة سودانية غامقة جدا, أنجبت له ولدا علي بشرتها اسمه سيد زيدان كان زميلا لي في الدراسة عاما بعام, والتحقنا معا بمعهد المعلمين العام في مدينة دمنهور, فتمردت أنا وسلكت سبيلا آخر, أما هو فقد تخرج وعمل مدرسا في البلدة وتزوج لكن قدره المقدور لم يمهله حتي يفرح, فجعنا فيه فجيعة مدوية, ذلك أنه( يرحمه الله) كان دليلا علي أن هذه العائلة فيها بذرة نقية سليمة القلب حقا. الشيخ محمد زيدان عسر كان ضريرا, كف بصره قبل أن يدب علي الأرض, فبقيت في مخيلته ذاكرة الألوان, إذ هو بالكاد يعرف بعض أسمائها, ولكن ستار الظلام حين هبط علي عينيه في زمن طفولته المبكرة انحسر ظله عن مخيلته التي بقيت فضاء من الضوء السماوي المخضوضر, وبقي فيها ما عرف فيما بعد أنه القمر وأنها الشمس, ثم إنها باتت مخيلة شديدة الخصوبة, وبقيت له ذاكرة تتماهي في قوتها مع ذاكرة الكون. يحفظ القرآن الكريم بتجويد, والأحاديث النبوية كلها عن ظهر قلب وأحيانا بإسنادها, يحفظ معظم كتب التفسير من الزمخشري إلي الجلالين إلي الطبري إلي ابن كثير, ناهيك عن حفظه لكتب مهمة بمتونها وهوامشها وأذيالها أحيانا, من طراز كتاب الموطأ ونهج البلاغة والفقه علي المذاهب الأربعة, ولا بأس من المستطرف من كل فن مستظرف, إلي ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة والهلالية وحمزة البهلوان وذات الهمة وسيف بن ذي يزن, وفيروزشاه, والظاهر بيبرس وغير ذلك, ولئن كانت الدراسة في الأزهر الشريف آنذاك, ومن ثم في معاهده, تعتمد هذا المنهج فإن ذاكرة الشيخ محمد قد قويت به, وصحيح أنه لم يدرس في المعهد إلا شيئا يسيرا من علوم القرآن والحديث, إلا أنه قرأ المصادر باجتهاده الخاص طلبا للمعرفة والعلم في ذاته. كان حنبليا متشددا في قواعد الوضوء, وفي أداء الصلاة حيث الأدب مطلوب, وبالأحري عند الوقوف أمام الله, إذ يقتضي التأني والتمعن في قراءة الآيات وفي السجود وفي الركوع وفي ترديد الأدعية, وكان شافعيا وسطيا في غير ذلك من أمور العبادة, وحنفيا في مرونة الموقف من الحياة وأمور المعيشة والثقافة. في أثناء الوضوء يقف علي رصيف الميضأة مشمرا ذراعيه وساقيه, يتعوذ ويردد: أ.. أعو.. أعوذ بالل.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وذلك أنه لا ينطق اسم الله إلا بعد أن يصفو ذهنه ويتأكد أن شيئا غير جلال الله ليس يشغل ذهنه, قد يوقف الوضوء في منتصفه ليستأنفه من جديد إذا سمع من حوله لفظا قبيحا أو ساوره الشك بأن خاطرا من الخواطر قد مر بذهنه فشوشر علي جلال الجلالة, فإذا أخذ عليه أحد المشايخ هذه الإطالة أفحمه بلطف بأن السيدة نفيسة رضي الله عنها حينما أبلغوها نبأ وفاة الإمام الشافعي قالت: رحمه الله كان يحسن الوضوء, أي أن الوضوء ياسيدي الفاضل ليس مجرد غسل أطراف الجسد بالماء, إنما هو صلاة أخري قائمة بذاتها, إنه عملية التطهر للجسد وللنفس قبل الوقوف أمام الله لأداء الصلاة. وكان المصلون من الأجيال الشابة يتوضأون كيفما اتفق, يستقبلون المياه من الصنبور في أكفهم عند المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه والرأس, ويضعون أذرعهم تحت مياه الصنبور مباشرة, ولا أحد يدري كيف كان الشيخ محمد زيدان يكتشف هذا الخطأ في أثناء وقوفه في انتظار أن ينتهي أحدهم ليفرغ له مكانا, عندئذ يظهر الاستياء علي وجهه فينعقد ما بين حاجبيه تحت قنطرة النظارة السوداء الغامقة العريضة العدستين كنظارة طه حسين, وفي لطف مشوب بالأسي والأسف يقول: علي فكرة ياجماعة.. الوضوء الشرعي يقتضي أن تغرف الماء بكفيك من الحوض وتتوضأ! وإلا فلماذا وضعنا هذه الأحواض تحت الصنابير؟!. فإن تجاسر أحدهم وطلب تفسيرا لحكم قراقوش هذا أنبري هو في تهكم: يا فلان يجب أن تعرف أن اختراع الصنبور حينما دخل بلادنا في مصر مع المياه النقية اعترض عليه الفقهاء واعتبروه بدعة, وقالوا: إن السنة في الوضوء أن نغترف بأيدينا من إناء! فقامت معركة طويلة حامية بين الفقهاء ممثلي المذاهب الأربعة وبين الدولة التي تريد أن تتقدم الأمة وتشرب مياها نقية تسكن مع الناس في أعقار دورهم! ومن رحمة الله بنا أن تعددت آراء الفقهاء وتباينت! إذ خرج علينا الحنفية, أتباع الإمام أبي حنيفة, وعارضوا المالكية والحنبلية والشافعية! قدموا حلا جميلا ذكيا ينهي المشكلة دون تفريط في السنة! قالوا لا بأس من تركيب الصنبور, ولكن بشرط أن نضع تحته حوضا أو إناء! ونترك الصنبور يصب الماء في الحوض, ثم نغترف من الحوض بأيدينا ونتوضأ! ومن يومها سمي الصنبور بالحنفية نسبة إلي أتباع أبي حنيفة الذين أقروا الصنبور. فإن كان المتوضئ ولدا مستهترا عجولا وشوح في استهانة قائلا: ياعم خليها علي الله ربك رب قلوب, يرد عليه بكل لطف: أعرف أنك ستقول هذا, ولك أن تفعل أو لا تفعل فأنت حر طبعا, ولكن الله سيعاقبني إن حجبت عنك معرفة قد تفيدك بصواب فيه ثواب!. وكان هذا هو منهج الشيخ محمد في الحياة: الإفضاء بالعلم حتي لمن لا يطلبه. المزيد من مقالات خيري شلبي