أصبحت الثقافة في الزمن المعاصر تمثل العنصر الاساسي المحرك لمسارات الشعوب, ومن ثم يجب أن نعي أن تدني الفكر وضعف المعرفة يشكلان الازمة الحقيقية التي تواجه عالمنا العربي. والمخرج من تلك الحالة يكمن في تأسيس مشروع حضاري يجتمع عليه المفكرون والمثقفون والمهمومون بالشأن العربي, بأطياف توجهاتهم, أملا في توحيد سبل مواجهة تحديات عصر العولمة, والتصدي لاختراق ثقافة الآخر للعقل العربي, بهدف الخروج من أزمة التغريب الثقافي, والتحرر الفكري من أسر بعض عناصر التراث السلبي المهيمن. يكاد يجمع الباحثون المهمومون بشئون المجتمع العربي علي وجود أزمة ثقافية تثير أشكاليات عدة, تعكس حالة من الوهن المعرفي, والتغريب المنهجي المؤثرين بصورة سلبية في معالجة قضايا الواقع العربي, ومواجهة تحديات عصر العولمة, والآثار المترتبة علي اتساع دائرة المعلومات المتدفقة من مراكز العالم إلي أطراف الدول بلا حدود, لقد بات واضحا أن الفكر العربي في كثير من حالاته يعاني من غياب مشروع قومي ينطلق من أهداف محددة ورؤي ثقافية متكاملة وأدوات منهجية ملائمة ينطلق منها الباحث في سبيل معالجة معطيات واقع متناقض, يجمع بين ليبرالية متوحشة تسود العالم وهيمنة متحكمة في مقادير الشعوب. ويظل المفكر العربي يتأرجح في تفسير مجريات الأحداث حيث يتلقي دعاوي انسانية عالمية تدعو للحرية والديمقراطية ونشر ثقافة حقوق الانسان وتطبيق مباديء المساواة والعدالة ونظم الحكم الرشيد.. ويعايش وقائع وحشية وحروبا وتدخلات. تتعرض لها الشعوب تهدر فيها انسانية الانسان وتنتهك كرامته. وهنا يعيش المفكر العربي حائرا يبحث عن مخرج لهذا التناقض القائم بين الفكر( الدعاوي) والواقع( الأحداث) لكنه يبقي مقيدا بفكر تشبع به, بعضه ليبرالي في الظاهر متطرف في المضمون أو راديكالي تقدمي في العلن مغترب في التطبيق, وبعضه الآخر تراثي متحجر لايقوي علي مجابهة عصر الثورة الثالثة بكثافة تحدياتها وسرعة تداولها وتأثيراتها في صياغة عقول البشر, وبناء عليه تصاغ رؤي وأفكار مغتربة تتأرجح بين متناقضات الواقع وأحداثه, علاوة علي أنها تتداخل مع توجهات ومصالح واحتياجات وأيديولوجيات متعددة ومتباينة, مما يقود إلي غياب رؤي وطنية خالصة تعبر عن إرادة الشعوب وطموحاتهم, وتسهم في ضعف قيم المواطنة والانتماء والولاء, وتساعد علي إحداث تعارض بين المصلحة الخاصة للمواطن والمصلحة العليا للمجتمع, كما أنها تسهم في إحداث حالة من عدم الثقة بين المواطن وحكومته. وفي مثل تلك الحالة يشعر المواطن بعدم الاستقرار ويفقد الرغبة في إظهارإمكاناته ويقلل من طموحاته, وتزداد تلك الحالة لدي المهموم بالشأن المجتمعي, لذا يفتقد المفكر العربي تدريجيا بوصلة مسار التطور ويفقد العقل قدرته علي استيعاب معطيات الواقع وتحليل متغيرات العالم المعاصر, الذي يتسم بالتقاطع والتساوق والانفصال في آن واحد, والمحصلة النهائية تتمثل في الإخلال بشروط البقاء والارتقاء, أو بالأحري فقدان القدرة علي التمسك باستقلالية القرار والتخطيط العقلاني للمستقبل, حيث ينساق المفكر العربي وراء الفكر الغربي والدعاية الإعلامية المكثفة والتقنية الفضائية المحكمة أملا في التواصل مع معطيات نظام دولي غربي الصنع مركزي النشأة مما يشكل عقبة ثقافية واغترابا معرفيا يفقده القدرة علي مواجهة كثافة التحديات الآنية والمستقبلية. فمن الملاحظ أن نسبة غير قليلة من المفكرين العرب اعتادت استخدام مفاهيم صكها أصحاب الاتجاهات الغربية وتأثرت بمقاولاتهم وتبنت أدواتهم المنهجية, فغاب عنهم تأسيس مشروع حضاري يأخذ في اعتباره متغيرات عصرية غير مسبوقة في التاريخ استطاعت, بتخطيط محكم وموجه, أن تغير من مفاهيم سائدة كادت تتحكم في خلايا العقل العربي فتجدرت في تراثهم الثقافي ينطلقون منها دون سواه في تحليل قضايا العالم, لذا فقد افتقدوا السبل لابتكار رؤي تحليلية موضوعية متكاملة ومستقلة يمكن ان تسهم في تناول معطيات واقع جديد بآلياته المستحدثة والموجهة لخدمة قوي عالمية أزاحت القوي التقليدية السابقة وتربعت علي قمة قرية كونية افتراضية متخذة من البعد الثقافي بتقنيته الفائقة آلية ساحرة للهيمنة علي مقدرات الشعوب في عالمنا المعاصر, مما أدي إلي ارتباك ملحوظ في التفكير وانتشار فوضي التوجهات الفكرية فأخفق أصحاب الفكر العربي في امتلاك عناصر القوة المعرفية التي تمكنهم من تجاوز حالة الفوضي والتناقض القائم بين الأصالة( الارث الثقافي) والمعاصرة( التغريب الفكري السائد) حتي يمكنهم من وضع أسس للتحاور بندبه مع أطر معرفية متعددة التوجهات يملكها الآخر وهي أطر قابلة للتداول والانتشار والاتساع في الفضاء العالمي, بل ناجحة في اختراق العقل العربي وتهيئته لحالة الاغتراب الفكري والتشوه المعرفي, مما يجعلها تقف عائقا أمام ابتكارات معرفية عربية كان من الممكن ان تسهم بفعالية, إذا ما أتيح لها الفرصة في تطوير المنظومة الثقافية والعلمية العالمية. وربما بسبب ذلك ولأسباب أخري متداخلة تدهور الفكر العربي خاصة حين غاب عن مفكريه ملامح واضحة لمشروع نهضوي كان سائدا من قبل وتأسيس عليه فكر التنوير الأوروبي, ذلك المشروع الذي ينطوي علي أسس للتعاون الفكري والمعرفي والعلمي الهادف بين دول تملك امكانات مادية وثقافية متنوعة ومتكاملة, تحتاج إلي منظور ثقافي متكامل يسهم في بلورة صياغة هدف قومي تشعر بأهميته الشعوب العربية وتدعمه كل من الصفوة الثقافية والسلطة السياسية في المجتمع العربي, تتكاتف المؤسسات الرسمية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني من أجل تحقيق مآربه, تتيح التعامل مع قضايا الواقع العربي, اقتصاديا وسياسيا وثقافيا, مشروع ثقافي يضع في اعتباره تجارب الماضي, ووقائع الحاضر وتحديات المستقبل يستند إلي فكر مستنير يقبل الآخر ولا يخضع له, ينطلق من إرث حضاري داعما للفكر الديمقراطي الحر, محققا استقلالية القرار, رافضا التبعية والتغريب, مقربا المسافات بين الشعوب العربية محققا طموحات مواطنيها قادرا علي إعادة ثقافة المواطنين في حكوماتهم, داعيا إلي مشاركة الشعوب في أنظمة الحكم مرسخا مباديء العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.. نحن في حاجة ماسة إلي صياغة فكر جديد وممارسة نهج معرفي مخالف لما اعتدنا عليه في الماضي ينطلق من مباديء الوحدة الثقافية من أجل حركة فكرية موجهة لخدمة الشعوب العربية في زمن باتت فيه العزلة لامكان لها في ظل تعاظم التكتلات وبروز قوي بازغة في عالم لايعترف بغير القوة الكامنة في المعرفة العلمية وتطبيقاتها من أجل التحديث والتقدم فهل نتحرك نحو تأسيس مشروع حضاري فاعل قبل فوات الآوان؟