مقال الدكتور عبد المنعم سعيد عن رسالة العمران خرج به عن سياق مقالاته السياسية ليقف بوضوح وصراحة وقوة خلف نمط التطوير العمراني الذي يحبذه وهو دور المطور العقاري . الذي يقوم بعملية تنظيم البناء بين المستهلكين والبنوك والمقاولين, وكما يقول الدكتور سعيد فقد حول المطور العقاري مناطق بأكملها من موحشة مهجورة الي نموذج للعمارة المتقدمة وبذلك تكون في طريقها لحل مشاكل الاسكان في مصر ذات الأربعة والثمانين مليونا طالبين للسكن والعمل للإسكان, وياحبذا لو قامت المشروعات التي ذكرها سيادته بحل أي من مشاكل المجتمع المصري فقد قدمت سكنا للطبقة القادرة وهي التي كتبت عنها في قضايا واراء في عدد4 يناير2010 احتلت الصفوة التخطيط الجديد عن طريق المزادات شعار الاقتصاد الحر, واقامت مجتمعات مازالت خالية جزئيا من السكان وكليا من الخدمات الأساسية تعتمد علي القاهرة الأم لخدماتها وعمل سكانها وتضيف الي مشاكلها. وقد اتجهت الجهات الرسمية لإسكان البروليتاريا بدون توفير أماكن العمل ووسائل المواصلات السريعة بينها وبين المدن الأم. هذه التوسعات العمرانية للصفوة المهاجرة بعيدا عن أماكن العمل توقعنا لها الامتداد الي40 كيلو مترا شرقا وغربا من مركز القاهرة عام2050 مما يعظم مشاكلها, مجتمعات الصفوة وهي التي ينشئها أفراد أو شركات التطوير العقاري تنعم بملاعب الجولف والنوادي متحملة في سبيل ذلك المشاق والوقت الضائع في انتقالها للعمل, كما يتحمل أفراد الخدمة مجبرين مصاعب الانتقال من العشوائيات التي طردوا اليها, في طرق سريعة تحولت الي شديدة البطء وبالذات في ساعات الذروة وذلك بالسيارات العامة والخاصة. هذا النمط من التطور العقاري لم يلتفت الي موروثة سبق ان لفتنا النظر اليها بالارتباط بالسكن بجوار العمل كمورثة متأصلة في المجتمع المصري, كما لم يرتبط كما نادينا في مقالات سابقة الي ضرورة الارتباط بتنمية شاملة للسكن والعمل والدراسة والعلاج والتجارة والصناعة والترفيه والرياضة, الأمر الذي راعته مخططات كثيرة سابقة كما في مستعمرة الكهرباء في شبرا الخيمة والمدن الصناعية في المحلة الكبري ودمياط وأبو ماضي, وقد رعته الدولة في القاهرة الكبري بتخطيطها لعشر مدن صناعية تحولت الي كومباوندات راقية أغلبها خال من السكان عن طريق المزادات والاستثمارات الموجهة نحو زيادة ايرادات الدولة بالتنمية الشريطية علي جوانب الطرق السريعة الصحراوية والزراعية. مقاله2009/9/23. من الغريب ان الدكتور سعيد هاجم الذين طالبوا ببقاء جزر القاهرة عدد15 جزيرة وعدد144 جزيرة أمام888 قرية وتجمعا بمساحة اجمالية1550 كم مربع بعيدة عن الاستغلال العقاري وفي رأيه انهم بذلك أوقفوا نشأة الزمالك أو هونج كونج أو منهاتن مصرية جديدة بدلا من مساحات لزراعة البانجو والأفيون والماريجوانا. كما ذكرنا ان كل محاولة لتطوير هذه الجزر قوبلت بالصرخات ضد الاستغلال والغني الفاحش والصفقات والمال الحرام, لماذا لم يفسر الكاتب هذه الصرخات من جمعيات الحدائق ومن لجنة العمارة بالمجلس الأعلي للثقافة بأنها ضد الاستغلال الخرساني لمساحات خضراء؟ هذه المساحات يقتصر نصيب الفرد منها بالقاهرة علي2.07 م بالمقارنة بنصيب العشرين مترا للفرد في أغلب مدن العالم الاخري, لماذا لم يفسر هذه المعارضة الخضراء انها صوت مدافع عن الاكسجين ومحارب لثاني اكسيد الكربون الذي تبعثه البيئات المشيدة؟ لقد مارسنا كمتخصصين التخطيط العمراني كأداة للتنمية الشاملة لمختلف الأنشطة الانسانية ولجميع طبقات المجتمع, مثل هذا التخطيط الشامل لا يشجع المطور العقاري الساعي للربح علي اتباعه. فهو لايحترم توفير تركيبة الطلب المتعارف عليها في سوق العقارات والتي صورها الدكتور عبد المنعم سعيد للإسكان الفاخر5% الي35% للاسكان المتوسط الي60% للاسكان الاقتصادي والشعبي ليوضح لنا سيادته مشروع التطور العقاري من الأمثلة التي يعجب الجميع بها والذي احتوي علي النسبة الأخيرة أو أي نسبة قريبة منها للإسكان الشعبي. وقد أهملت رسالة العمران البرنامج القومي للإسكان والذي تجاوزت فيه الدولة والمحافظات والقطاع الخاص أهداف برنامج الرئيس للاسكان(500 ألف وحدة سكنية منذ2005 وماتحقق منها حوالي50% وقد وجه95% للتمليك علي مستوياته المختلفة( إبني بيتك/بيت العائلة/ الأولي بالرعاية/ البيت الريفي) و5% للإيجار وقد اختيرت لوحدات التمليك مواقع قائمة في المدن الجديدة تبعد عن مصادر رزق الطبقة الشعبية مما إضطرهم لإعادة بيعها/ لأغراض فرق الثمن. والمثل التقليدي الذي هاجمه الكاتب لمثل هذا الاتجاه للبناء الحكومي وهو إسكان عين الصيرة تجرد من أبسط قواعد البناء الشعبي وهي استيفاء الاحتياجات الواقعية للأسرة الصغيرة والممتدة, ومع ذلك فإن هذه المساكن مع ما أصابها من تدهور مازالت أفضل من مساكن قرية العقارب والصفيح والدويقة, ومنشأة ناصر والتي تركت للبناء العشوائي بأهلها المزدحمين بالعشرات لكل غرفة. لم يكن أمام الطبقات الشعبية إلا البناء بأبسط المواد المتوافرة لديهم وبدون الالتزام بأي قواعد تخطيطية أو تنظيمية أو صحية, اللهم الا ان يكون فوق رؤوسهم غطاء من خشب الشجر أو الصفيح يقيهم من المطر والعواصف بلا أي خدمات من مياه أو مجاري أو كهرباء, ولم يكن الجمال أو القبح في فكرهم في أي من هذه المناطق التي طردوا اليها من اماكن التطوير العقاري التي يخدمون فيها, هذه الطبقة الأولي بالرعاية خصصت لها الدولة15% من البرنامج القومي للإسكان(75 ألف وحدة) نفذ منها ستة الاف وحدة وجار تنفيذ34 الف وحدة. والدولة والدكتور سعيد لم يشجعا الحل الذي نراه واحدا من فرص المستقبل أمام الشباب في تحقيق الاسكان عبر المشاركة الشخصية والجماعية في عملية البناء والإدارة لجمعيات فئوية أو أهلية علي كل مستويات الدخل لقد هاجم الدكتور سعيد هذا المقترب لجمعيات فئوية ومنها نقابة الصحفيين للبناء السياحي علي الساحل الشمالي في قرية حسن فتحي وهو منها بريء. وعلي أساس هذه التجربة وغيرها خفضت الدولة منح الجمعيات اراضي بأثمان زهيدة وقروض بفوائد مخفضة وذلك علي الرغم من وجود تجارب لآلاف الجمعيات حققت مساكن أساسية علي مختلف المستويات بأسعار أقل من التكلفة الواقعية وذلك لاستغلال الجمعيات للبيع الاستثماري للواحدات التجارية الترفيهية والسكنية المتميزة وليعود العائد منها اليهم بدلا من المطور العقاري. والكاتب يقطن حاليا في أحد الأمثلة الناجحة لنتاج جمعية تعاونية في السبعينيات وقد حصل عليها كعضو وبسعر أقل من التكلفة الاساسية للوحدة السكنية, ويسدد عائد الوحدات الاستثمارية جميع تكاليف الصيانة والإحلال. ولنعد لحل المطور العقاري الذي يحبذه الدكتور سعيد ونقول إن بدايته لم تكن كما هو عليه اليوم, فقد ابتدأ بالمشاركة بين الدولة والمطور العقاري فيما عرف بالاسكان الحر وهو الذي بني علي اساسه عقد مدينتي ومشروعات أخري, مثل هذه المشاريع المشتركة تحصل الدولة علي نسبة معينة من انتاجها السكني تراوحت ما بين7% الي20% نظير تقديم الأراضي والخدمات الأساسية خارج المواقع بالمجان, وقد تراجعت الدولة عن المشاركة واستبدلتها بعقود بيع للأراضي بسعرها الواقعي وقت التعاقد الأصلي, وياحبذا لو طبق هذا التعديل علي مشروع مدينتي وذلك كحل للمشكلة التي نشأت عن حكم محكمة القضاء الاداري. وفي النهاية لايمكن ان ننكر الاضافة المعمارية والعمرانية لمشروعات التطور العقاري الا انها لم تحترم التكافل الإجتماعي بل أكدت بإعلاناتها والقليل الذي تحقق منها التباعد الطبقي للمجتمع, كما لم توفر الانشطة المختلفة التي يحتاجها المنتفع في محيط مسافي معقول ومريح بطرق مواصلات سريعة من السكن الي مقر الخدمات التقليدية للمجتمع, وقد ابتلعت متوفرات حالية ومستقبلية كان من الممكن استغلالها في تطوير مصادر انتاج باستثمارات محلية, وفي النهاية نجد ان أعداد الوحدات الناتجة عن طريقها وهي أقل من أربعين ألف كما ورد في رسالة العمران لا تقارن بالاحتياجات الواقعية للإسكان وهي خمسمائة ألف وحدة سنوية لتغطية احتياجات الأسر الناشئة واحتياجات التجديد والإحلال. والفارق بين الرقمين كبير جدا مما يثبت ان اعتمادنا للتمويل علي طريق التمويل العقاري محدود جدا حيث يعتمد علي قطاعات تتخذ منها سبيلا للسكن الفاخر أو السكن الثانوي القابل لأن يترك في مكانه خاليا للاستعمال المستقبلي أو الاستثمار العقاري, وهو استثمار ناجح بحكم الندرة. وقدبشرتنا رسالة عمران بمستقبل أفضل باتجاه الدولة لخلق شرايين تنمية منطقية تربط وادي النيل بالبحر الأحمر, وتبدو أرقام التنمية التي نسبت لوصلة اسيوط حتي تقاطعها مع طريق سوهاج مشجعة ومتفائلة ومساحة الأرض المخطط تخصيصها علي جانبي الطريق يصل والمرجع للدكتور سعيد الي54 الف فدان للزراعة والصناعة والتغذية وتوليد الطاقة والسياحة ومرافق الصيانة, وجميع الأرقام التي ذكرت مشجعة وياحبذا لو امتد هذا التوسع لمشروع الدكتور فاروق الباز في الوادي الجديد بالصحراء الغربية وهو الأمر المبشر لوجوده علي ارض مستوية ويصل بين مناطق مأهولة علي بحر متوقع من المياه الجوفية, وكل ما نرجوه ان تقوم هذه المشاريع علي تجارب تخطيطية معروفة للمتخصصين وان تتجنب أخطاء الماضي بالاتجاه نحو التخطيط الشامل لنواة سكنية خلوية حول مصادر العمل والأنشطة الناجحة وليست شريطية علي جانبي الطرق الرئيسية والتي يباع المتميز منها للمطورين العقاريين بالمزادات, وهي تتحول بذلك الي تنمية أشبه بتلك التي علي طريق مصر الاسكندرية الصحراوي أي الي سكن ثانوي نصف مغلق للمغتربين من المصريين والأجانب وللسواح الطامعين لسبل معيشة مثيرة منتقلين إليها من مدن الصعيد في طريقهم إلي البحر الأحمر في عطلات نهاية الاسبوع بدلا من أن تكون مجالا لتنمية حضارية واقعية تفرغ الوادي الضيق من ازدحام خانق.