في مؤتمر النقد الأدبي والواقع الثقافي الذي أقامه المجلس الأعلي للثقافة منذ أيام, أشار البعض إلي أزمة النقد, وأنه ليس هناك الآن الناقد الحصيف الذي يستطيع أن ينير الطريق أمام المبدعين, بل ترك الحكم علي الأثر الأدبي للمبدعين أنفسهم!! إلي آخر ما قيل في هذا المؤتمر. وكأن الكلمة التي أطلقها عميد الأدب طه حسين في ستينيات القرن الماضي وهي سكت النقاد أو كادوا لاتزال سارية حتي ولو مر عليها أكثر من نصف قرن, والمدهش أن تطلق هذه الكلمة في وجود عدد من أفراد جيله من النقاد الكبار, ووراءهم عدد من جيل الأساتذة المتخصصين في الدراسات النقدية, هذا إلي جانب غزارة الانتاج وجودته وقتئذ.. لوجود مبدعين حقيقيين يتقدمهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور والشرقاوي, وهو ما يختلف عن الانتاج الأدبي اليوم الذي يحدث ضجيجا دون فائدة وكأنه حصاد الهشيم أو قبض الريح, الأمر الذي ينعكس علي الحركة النقدية.. أقول رغم ذلك أدان طه حسين الحركة النقدية وقتئذ فما بالنا لو كان حيا ورأي ما آلت إليه حركة النقد ومن قبلها الابداع من ترد!! وربما يتساءل البعض: وما الذي جري للحركة النقدية في أوائل الألفية الثالثة فتخلفت عما كانت عليه قبل منتصف الستينيات من القرن الماضي, حين أفرزت نقادا كبارا يتقدمهم محمد مندور ومحمود شاكر ولويس عوض ورشدي صالح وعلي الراعي والقط وغيرهم ممن تجسدت في وجودهم الحركة النقدية بعد طه حسين والعقاد والمازني وشكري وغيرهم, وقبلهم الرافعي؟ والاجابة عن ذلك تقول: ان هذه الأجيال كانت تؤمن بأن النقد لم يكن مدحا فقط, أو ذما فحسب, أو تحيزا لتيار دون آخر, بل كانت مهمة الناقد شبيهة بمهمة القاضي الذي لايصدر حكما دون الاستناد علي أدلة وحيثيات.. إن مهمته كانت في التساؤل لماذا يكون الأثر الأدبي رديئا أو جميلا؟ ولا يبني حكمه في ذلك علي ذوق شخصي مطلق وإنما علي قواعد وأصول تحد من ذاتيته لتقترب أكثر وأكثر من موضوعيته ونزاهته. كذلك كانت مهمة النقاد ألا ينقلوا ما لا يصلح لحياتنا الثقافية من مذاهب نقدية أجنبية بسبب نجاحها في بلادها. فهي إن كانت كذلك فليس بالضرورة تصلح في بلادنا لاختلاف ثقافتنا العربية عن غيرها.. والأمثلة علي هذا النقد كثيرة, حيث تقرأ لأحد النقاد المحدثين فلا تفهم ماذا يكتب, وكل الذي تحصله مما يكتب مجموعة من المفردات الغريبة رصت إلي جوار بعضها البعض, لتصنع في النهاية كيانا يقول عنه صاحبه بأنه نقد!! والطامة الكبري أن يكون هؤلاء المتأثرون بالثقافات الأجنبية ليسوا من الشباب فحسب بل من الكبار, وممن يتشدقون بزعامتهم للمذاهب والاتجاهات النقدية, فتقرأ للواحد منهم فتنقلك كتاباته من غموض إلي إبهام, وتسمعه فلا تفهم ماذا يقول. حتي أصبح طبيعيا أن ينصرف الجمهور عن قاعات الندوات لمجرد سماع المغرمين باستخدام التعبيرات غير المفهومة. إلي درجة أن رئيس اتحاد الكتاب الأسبق الراحل سعد الدين وهبة نبه أحدهم بعد إنصراف الجمهور من قاعة الندوة قائلا: بعد كده إللي حيتكلم بهذه الطريقة هيكلم نفسه والعجيب أن الذين يكتبون ويتكلمون بهذه الطريقة يظنون أن ذلك هو دليل الثقافة الرفيعة, مع انهم لو أدركوا أن البساطة فن لا يجيده إلا أصحاب الهمم العالية لاستغنوا عن هذه الأساليب التي يكونون هم أنفسهم أولي ضحاياها. يضاف إلي ذلك أنه ليس هناك ما يعرف بنقد الفكر الذي يقيم الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, بل وممارسات النقد الأدبي ذاته, وإذا حدث تقييم لواحدة من هذه الممارسات فلا يقوم علي مناهج علمية بقدر ما يقوم علي كم من الشتائم والسخائم. لكن علي الرغم من ذلك.. فقد وجبت التحية لكل من الصديقين الدكتور عماد أبوغازي الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة والدكتور أحمد درويش مقرر لجنة الدراسات الأدبية بالمجلس لتحريكهما المياه الراكدة بهذا المؤتمر المهم.