النظام العربي ذلك التعبير الذي أنهك الباحثين والدارسين ورجال السياسة والحكم, يبدو أمام كثيرين المسئول رقم واحد عن التراجع والتردي والشعور بالهزيمة الذي يسود أبناء العالم العربي علي اختلاف معارفهم وتطلعاتهم. وفي ذلك بعض الصحة. لكن الخطأ الأكبر أن يسود الاعتقاد بأن فشل النظام العربي راجع إلي أسباب غير عربية, أو انه قدر بات محتوما علي الدول العربية وشعوبها, أو انه بعيد الصلة عن سياسات ومواقف الدول الأعضاء نفسها التي تشكل النظام نفسه. وفي كل دراسات النظم الإقليمية ثمة مبدأ أصيل يقول إن قوة ومنعة النظام الإقليمي أو ضعفه وخيبته هما نتيجة لحجم الإرادة السياسية التي يقررها الأعضاء للعمل تحت مظلة النظام, وأنه تبعا لحجم السيادة التي يتنازل عنها الأعضاء لصالح المؤسسة التي تمثل النظام الإقليمي ككل يكون النظام قادرا أو غير قادر علي إدارة شئونه الجماعية. فالمسألة أولا وأخيرا تتعلق بالإرادة السياسية الكلية سواء في اتخاذ القرار أو في الالتزام به. وفي كل الأحوال لابد أن هناك ثمنا تدفعه الدولة العضو وثمنا يدفعه النظام ككل من أجل أن يحقق أهدافه وتطلعاته, والتي هي أهداف الأعضاء أنفسهم. وبكلمات صريحة ومباشرة فإن غياب الإرادة العربية الجماعية هي العامل الأكثر تأثيرا في تراجع العرب وتدهور مكانتهم وفي محدودية تأثير الجامعة العربية التي تمثلهم وتعبر عن هويتهم وثقافتهم ودورهم علي الصعيدين الإقليمي والدولي. ولذلك فإن أي محاولة لتفعيل الجامعة العربية أو مجمل منظومة العمل العربي المشترك دون أن يصاحبها معالجة فعالة لهذا الخلل الأصيل المتمثل في غياب الإرادة العربية الجماعية سيظل جهدا ضائعا, أو كما يقال ضجيج بلا طحن. وفي تاريخ الجامعة العربية نفسها الكثير من المحاولات التي سعت بصدق إلي تفعيل دورها ومكانتها عربيا ودوليا, ولكنها اصطدمت بعقبة غياب الإرادة الجماعية. ومن هنا نأمل أن يكون الجهد العربي الأخير المتمثل في القمة الخماسية التي عقدت قبل يومين في ليبيا, تطبيقا لأحد قرارات قمة سرت العربية التي عقدت في مارس الماضي, أن يكون واعيا بضرورة تجاوز عقبة تشكيل إرادة عربية جماعية تجتمع علي شئ من حيث المبدأ والقرار, وتصر علي تنفيذه والالتزام بنتائجه أيا كانت. ولا شك أن القيام بالخطوة الأولي في هذا السياق ليس مجرد الاجتماع وحسب, بل التوافق علي استراتيجية عمل طموح تنقذ الجامعة العربية وتنقذ النظام العربي معا, وتأخذ في الاعتبار الحالة التي يمر بها الإقليم ككل, وتوازن القوي الآخذ حاليا في التشكل, وفي جزء كبير منه ما يضر العرب جميعا, ومطلوب محاصرته وإفشاله, وفي جزء آخر ما يمثل إضافة إلي القوة العربية الجماعية, ومطلوب التعامل معها بكل حنكة واقتدار وعدم إفشال تلك الفرصة. وإذا تبلور عنصر الإرادة العربية الجماعية فمن اليسير بعد ذلك وضع استراتيجية للعمل العربي المشترك, ولا يهم هنا اسم هذه الاستراتيجية أو عناوينها البراقة أو طموحها الأكثر من اللازم, وإنما المهم أن تكون هذه الخطة قائمة علي أسس أخذت حظها من الدراسة والتحليل, والقبول العربي العام لها. ومعروف هنا أن فكرة تطوير الجامعة العربية ليست جديدة في حد ذاتها, فهي مطروحة تقريبا منذ الستينات, وكثيرا ما ظهرت علي السطح سريعا ثم اختفت بسرعة أكبر. ولكن هذه الدعوة ومنذ وقوع العراق تحت طائلة الاحتلال الأمريكي في مارس2003, أخذت منحي جديدا وربما أكثر جدية نسبيا مما كان عليه الوضع من قبل. وللتذكرة فقد ساد لدي بعض العرب مقولة أن الجامعة العربية هي المسئولة عما جري للعراق, وأنها بذلك أثبتت أنها أكثر النظم الإقليمية فشلا في العالم, وذهب البعض إلي القول بأن المطلوب هو إعلان موت الجامعة العربية والبدء فورا في بناء منظومة عمل إقليمية جديدة تراعي المتغيرات الإقليمية والدولية التي انبثقت عن احتلال العراق. وقد بدا هذا الرأي وجيها من ناحية الشكل, ولكنه غير ذي جدوي من الناحية العملية, إذ تبين انه لا توجد أية ضمانات حقيقية لبناء منظومة عمل أكثر فعالية إذا ما أعلن انتهاء عمر الجامعة العربية وكل المنظمات الفرعية التابعة لها, كما لا توجد أية ضمانات فعلية بأن المولود الجديد سيكون أفضل حالا, لاسيما وان العرب كانوا مهزومين بفعل هزيمة واحتلال العراق. وبعد فترة حرجة سادت رؤية عقلانية تري أن الجامعة العربية لم تكن الوحيدة علي صعيد المنظمات الإقليمية أو الدولية التي ثبت فشلها في منع احتلال العراق, فالكل خرج خاسرا بدرجة ما, وأن الحكمة تقضي بالحفاظ علي الكيان القائم والنظر بجدية اكبر من اجل تفعيله ومعالجة أوجه القصور التي كشفت عنها التطورات الدرامية التي لحقت بالعراق. ومن هنا كانت فكرة إصلاح الجامعة العربية وإعطائها دما جديدا عبر إعادة النظر في منهج عملها وفي علاقات الدول الأعضاء بها, وفي حجم التزامهم بما يقرره القادة العرب في مؤتمرات القمة المختلفة. وهكذا تبلورت رؤيتان; الأولي تنادي بالإصلاح الكلي الشامل عبر تغيير الكثير من مواد الميثاق أو وضع ميثاق جديد وآليات عمل جديدة وإضافة منظمات فرعية جديدة تعني بالأمن الجماعي وحل المنازعات وتهيئة علاقة أفضل بين الحكومات وبين الشعوب والمجتمع المدني. أما الرؤية الثانية فنادت بالإصلاح المتدرج, وعبر اتخاذ مجموعة من الإجراءات الواحدة تلو الأخري, والتي تعالج كل منها عيبا كبيرا أو قصورا بذاته, وإعطاء فسحة زمنية لاستيعاب تلك التغيرات علي الصعيد الفعلي. وهي الرؤية التي سادت بالفعل ونتج عنها عدة تغييرات في أسلوب التصويت وتأسيس برلمان عربي وآلية متابعة لتنفيذ القرارات وإيجاد آلية للارتباط جزئيا بالمجتمع المدني العربي وغير ذلك من إجراءات مهمة ولكن لم تكن كافية لإحداث نهضة فعلية في أداء الجامعة. ومن ثم ظل هناك من يطمح في أن يعيد النظر تماما في ميثاق الجامعة نفسها, وإعادة بناء منظومة العمل العربي المشترك وفق مبادئ وآليات جديدة, ومن هنا جاء طرح اتحاد الدول العربية, أو جامعة الشعوب العربية أو جامعة الوحدة العربية. وفي بعض ما هو مطروح من أفكار ما يعالج أمورا بذاتها, مثل تدوير منصب أمين عام الجامعة العربية, أو إنشاء منتدي للأمن العربي والتعجيل بإنشاء محكمة عدل عربية, أو إعادة النظر في دور وصلاحيات رئيس القمة العربية, وأيضا عقد القمة العربية الدورية مرتين في العام بدلا من مرة واحدة. ويلفت النظر هنا المشروع المسمي اتحاد الدول العربية, والذي قدمته اليمن باعتباره طوق نجاة للنظام العربي. والمشروع من حيث الشكل يبدو وكأنه أبدل كلمة جامعة بكلمة اتحاد, إذ ظلت الدول العربية موجودة لم تتغير والحفاظ علي سيادتها غير منقوصة لم يتبدل. وبالنظر في بنود هذا المشروع نجد انه إجمالا لم يقدم جديدا يمكن أن يفجر طاقات النظام العربي, أو يؤدي به إلي الفاعلية المطلوبة في زمن محدود. فعلي سبيل المثال إن نظرنا إلي أهداف الاتحاد سنجد أنها اقتصرت علي تعزيز التكامل الاقتصادي العربي وتعزيز دور القطاع الخاص واستكمال الإصلاحات الاقتصادية وتنسيق الجهود العربية في المحافل الدولية. إن هذه الجملة من الأهداف لا تمثل جديدا يذكر, فهي موجودة بالفعل في أداء الجامعة العربية ومنظماتها الفرعية الاقتصادية. كما أن قصر الأهداف علي التكامل الاقتصادي العربي رغم أهميته, ففيه تراجع شديد عما تم إنجازه في مجالات التعاون الأخري العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والأمنية وغيرها. كذلك فإن غياب الإشارة إلي الطموح العربي الكامن والمشروع في بناء وحدة عربية ولو علي مدي زمني بعيد نسبيا, يمثل تراجعا عما هو مطلوب إنجازه. وإذا نظرنا أيضا إلي الأبنية والأطر التنظيمية التي يطالب بها مشروع اتحاد الدول العربية, سنجد انه يشمل علي مجلس أعلي للاتحاد يقر القرارات ويضع السياسات العامة, وهيئة تشريعية تتكون من مجلسين, ومجلس لرؤساء الحكومات ومجالس وزارية ومحكمة عدل عربية وبنك تنمية اتحادي وهيئة لتسوية المنازعات العربية. وفي كثير من هذه الأطر التنظيمية ما يماثلها بالفعل في ظل الوضع القائم للجامعة العربية. فالمجلس الأعلي للاتحاد هو نفسه القمة العربية, ومجالس الوزراء موجودة أيضا. وما يزيد في مشروع اتحاد الدول العربية هو إقراره بتأسيس محكمة عدل عربية وهيئة لتسوية المنازعات بين الدول العربية. ومع ذلك فهما ليسا بجديدين في النظام العربي, ففكرة محكمة عدل عربية موجودة في أضابير الجامعة منذ أكثر من عشرين عاما, والأمر نفسه بالنسبة لهيئة تسوية المنازعات العربية. وما منعهما من الظهور وتحولهما إلي واقع هو غياب الإرادة السياسية العربية الجماعية. وهكذا فإن بعض الأفكار وبالرغم من البريق اللفظي الذي يميزها, لا تمثل جديدا, أو بالأحري لا تقدم علاجا حقيقيا لعامل الإرادة السياسية, التي إن وجدت أنصلح الحال, وان ظلت علي ما هي عليه, أصبح بقاء الحال نفسه من المحال.