قبل أعوام قليلة, استبق أستاذان بارزان في العلاقات الدولية الجدل الراهن حول العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بجمع أدلة علي التنافي في المصالح بين واشنطن وتل أبيب. وأن جماعة المصالح المؤيدة لإسرائيل تمارس دورها لمصلحة إسرائيل فقط وعلي حساب الولاياتالمتحدة. يومها, نال الباحثان ستيفن والت وجون مارشايمر أعنف حملة من نوعها في الإعلام الموالي لإسرائيل في أمريكا وخارجها من أجل تجريدهم من المصداقية, وإعطاء درس لمن يجرؤ في المستقبل علي انتقاد العلاقات الثنائية الإستراتيجية. لكن تسارع الأحداث في الشرق الأوسط, وغياب الأمل في التسوية السلمية, في ظل حكومة إسرائيلية يمينية تتعامل مع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما علي أنها هي العبء علي إسرائيل وليس العكس فتح الباب لنقاشات جديدة علي الساحة الأمريكية تنمو علي استحياء في الصحف الكبري والفضاء الإلكتروني الرحب! الموجة الجديدة في نقد السلوك السياسي الإسرائيلي في وسائل الإعلام الأمريكية الكبري تخطو خطوة جديدة في طريق نزع القداسة عن العلاقات المحصنة من النقد.. وهي الوسائل المملوكة في معظمها ليهود أمريكيين لا يجدون حرجا في تقديم ما يرونه تقويما للسلوك المعوج الذي يمكن أن يدفع السياسة الأمريكية إلي خندق صعب بين استمرار حماية إسرائيل, وبين تحمل الإضرار بمصالحها في العالمين العربي والإسلامي. في جانب السياسيين الأمريكيين, يبدو الأمر قد وصل إلي مفترق صعب لمؤيدي إسرائيل بمن فيهم اليهود الأمريكيون الذين يرون الشرق الأوسط يتغير في اتجاهات عديدة لكن المؤكد أن أمريكا لن يمكنها الدخول في مغامرات عسكرية مدفوعة برغبة في حماية الدولة الإسرائيلية, مثلما حدث في العراق قبل سبع سنوات, وهي الحرب التي عطلت مبدأ التدخل الخارجي غير محسوب العواقب. والدليل هو الفارق بين الحالة العراقية والحالة الإيرانية اليوم, حيث تبحث واشنطن عن مخرج سلمي يتجنب استخدام القوة العسكرية ضد طهران وتبذل مجهودا في تفعيل دور المنظمات الدولية التي كانت الإدارة السابقة قد أهملت وجودها. شجاعة الجنرال ديفيد باتريوس رئيس المنطقة المركزية الأمريكية في الإعلان أكثر من مرة أن المصالح الأمريكية تضار بشدة من وراء الممارسات الإسرائيلية, وآخرها الأسبوع الماضي بعد شهور من شهادة مماثلة في الكونجرس, وهو ما رفع عن كاهل إدارة أوباما' عبء الإثبات' إلا أن هناك أطرافا في الإدارة لا تسلط الضوء علي تصريحات المسئول العسكري الرفيع الذي يمثل تيارا لا يلقي التعاطف الكافي في الميديا الأمريكية برغم خطورة ما ذكره الرجل. وتمر تصريحات باتريوس مرور الكرام رغم خطورتها علي الأمن القومي الأمريكي. واخترق الباحث المخضرم أنتوني كوردسمان من معهد الدراسات الدولية والإستراتيجية في واشنطن حاجز الصمت الأسبوع الماضي, ونشر تحليلا وافيا عن العبء الإستراتيجي الذي باتت تمثله إسرائيل للولايات المتحدة, وحدد ركائز أساسية للحوار, وهي أن الولاياتالمتحدة لن تتخلي عن حماية إسرائيل تحت أي ظرف, وأنها تضمن تفوقها العسكري علي جيرانها العرب, وأن الدعم الأمريكي لعملية السلام ينطلق من تشجيع خيارات التسوية التي تتعامل مع ضمان أمن إسرائيل قبل أي شئ اخر ثم كان الإعلان الأمريكي الأخير حسب كوردسمان أن واشنطن ستنظر في توسيع مدي قوة الردع الإقليمي لمواجهة أي تهديدات إيرانية لإسرائيل, وأن الالتزام الأخلاقي الذي تبديه أمريكا تجاه إسرائيل لا يعني القيام بأفعال تنقلها من خانة الرصيد الإستراتيجي إلي خانة الأعباء الإستراتيجية, ومن هذه الأفعال التوسع في المستوطنات في الضفة الغربية, واستباق مفاوضات الوضع النهائي للقدس المحتلة بإعلانها عاصمة للدولة الإسرائيلية قبل التسوية الختامية. وكلمات كوردسمان يمكن أن تصبح منطلقا لفتح نقاش أكبر في الأوساط الأمريكية والعربية والإسرائيلية. في جانب آخر, أظهرت الأزمة الأخيرة انقسام خبراء الشرق الأوسط المقربين من الإدارة إلي فريقين, فيما يتعلق بالتعامل مع ملف حماس, فهناك فريق يميل إلي التهدئة وفتح حوار مع حماس وتفويت فرص المزيد من التصعيد ويمثلهم مارتن أنديك, السفير الأمريكي الأسبق في إسرائيل ومدير وحدة الشئون الخارجية في مؤسسة بروكنز للأبحاث, وروبرت مالي المفاوض الأمريكي السابق والخبير في مجموعة الأزمات الدولية, بينما هناك فريق آخر يضم المتشددين مثل ديفيد ماكوفسكي من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني يري أن الحصار الإسرائيلي يجب أن يستمر ضد حماس التي لا يمكن أن تفي بوعودها. وفي الحالة الأولي, المقربون من الإدارة يريدون خروج أوباما من الورطة الراهنة, وإلهاء المجتمع الدولي بتطور إيجابي ينسيه قصة أسطول الحرية ويقلل من فرص انهيار المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين, بينما الفريق الثاني يعكس رأي حكومة بنيامين نتانياهو علي طول الخط. لكن الفريقين, ومعظم أعضائهما من اليهود الأمريكيين, لا يذهبون أبعد من المطالبة بعودة المفاوضات, وتفويت الفرصة علي الراديكالية الدينية في المنطقة العربية, لكنهم لا ينفذون إلي صلب الصراع العربي الإسرائيلي المتفاقم, وهو عدم رغبة إسرائيل في صفقة عادلة تعيد بموجبها الأرض الفلسطينية المحتلة مقابل العيش في سلام مع جيرانها, ويرددون الكلام نفسه عن ضرورات الأمن الإسرائيلي والدولة الصغيرة التي تسبح في محيط من الكراهية دون أن يفسروا للرأي العام أسباب الكراهية. مشكلة التعامل مع الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل في السياسة الأمريكية أن القضية جديدة علي مسامع الرأي العام, الذي عاش لأكثر من ستين عاما في مقولات واحدة لا تتغير بتغير السياسيين في البيت الأبيض أوالكونجرس, فضلا عن المنظمات الدينية واللوبي الموالي لإسرائيل عميق الجذور, والأفضل هو أن تشارك الدوائر المصرية والعربية في طرح السؤال أينما حل السياسيون والدبلوماسيون والمفكرون والخبراء علي موائد النقاش الرسمية وغير الرسمية: كيف ترون التعنت الإسرائيلي في موازين العلاقة الإستراتيجية وفي ضوء مصالح أمريكا مع العرب؟ ومتي ينفد رصيد تل أبيب لديكم؟ لا شك.. نحن شركاء في عبء الإثبات!