كثيرا ما اشعر ان العرب لايلعبون السياسة الخارجية بمنطق المحترفين بل وربما ولا حتي الهواة, وان دأبهم الاوحد هو احتراف لغة الخطابة والبلاغة ومزجها بالسياسة لتخرج بيانات سياسية غاية في الرقي اللغوي, ولكنها للاسف لا تقرأ من محترفي السياسة بنفس المفهوم. وأضرب مثالا أرقني كثيرا, ومازال يؤرقني وانا اكتب هذا المقال, الا وهو كيف يتصرف العرب في قضية اسطول الحرية الذي كان يتكون من ست سفن تقودها سفينة تركية متجهة الي غزة, وهي تحمل ستمائة من المتضامنين مع رفع الحصار عن فلسطينييغزة, وتقديم مساعدات انسانية لهم.. وتعرضت هذه السفن وهي في منطقة اعالي البحار او المياه الدولية التي لاتتبع السيادة الإسرائيلية لهجمات شرسة من قوات الكوماندوز الإسرائيلية. وقامت الدنيا ولم تقعد, وتعالت صيحات اوروبية تنوعت في مداها بين ايقاف مناورات عسكرية من جانب اليونان بل وتركيا, كانت تشارك فيها إسرائيل, وسحب تركيا لسفيرها من إسرائيل وربطت تطبيع العلاقات الإسرائيلية التركية برفع الحصار عن غزة, وطلب العديد من القوي الغربية باجراء تحقيق دولي حول ما قامت به اسرائيل ووجدت الولاياتالمتحدةالامريكية نفسها في موقف صعب فحركت دفة الاممالمتحدة لتجود ببيان رئاسي من مجلس الامن يعبر عن اسفه لما حدث. ودعت بريطانيا لفتح المعابر غير المشروط للمعونات الي غزة وفي إسرائيل اشتعلت حدة الموقف داخليا, وحمل نيتانياهو وباراك مسئولية الكارثة, في نفس الوقت الذي رفضت فيه إسرائيل التحقيق الدولي المستقل او التعاون مع منظمة حقوق الانسان الدولية خشية ان تتعرض لمثل ما تعرضت له من لجنة جولدستون القاضي الجنوب افريقي.. اكثر من ذلك فقد رفضت مقترحا امريكيا بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة بمشاركة مراقبين امريكيين. كل هذا والعرب يتحاورون في عقد اجتماعين علي مستوي المندوبين المناوبين او اجتماع وزاري, وخلاف حول مسائل اجرائية تتعلق بالمحادثات غير المباشرة وما اذا كانت توقف كرد فعل علي ما قامت به إسرائيل, ام تستمر باعتبار ان من يقوم بهذه المحادثات هي الولاياتالمتحدة وليست إسرائيل, واخيرا استقر الرأي علي إحالة الامر الي مجلس الامن. ومفاد الامر ان الموقف العربي كان باهتا, وخافتا.. الا من موقف احترافي من جانب الرئيس المصري باستغلال الموقف بحنكة سياسية لفتح معابر رفح لادخال المعونات الانسانية والطبية اللازمة الي قطاع غزة, مع عدم تحديد مدة فتح المعبر.. وقناعتي ان هذا التصرف من جانب مصر كان غاية في الذكاء السياسي بل والاستراتيجي باستغلال نقطة ضعف في الموقف الإسرائيلي لتفرض مصر امرا واقعا يتسق مع الضمير والرأي العام العالمي الحادث, ويتلافي الاثار السلبية التي قد تحدث عند وصول قافلة المساعدات المسماة ريشيل كوري والتي تخلفت عن سفن اسطول الحرية وتبحر الان في طريقها الي ساحل قطاع غزة لكسر الحصار المفروض عليه. ودعونا نوضح الامر بصورة براجماتية اي استغلالية لمصلحتنا لتتناسب مع اسلوب إسرائيل الذي تلعب به معنا وألخصها في الآتي: أولا: أن إسرائيل تقف حاليا علي سطح من الصفيح الساخن, وأقدر انها لم تعان من هذا الموقف من قبل, ذلك ان الضمير العالمي قد تأجج لهول الاعتداء علي دعاة للانسانية من المدنيين الذين هدفوا الي رفع الحصار الإسرائيلي عن مدنيين في دولة تحت الاحتلال, واغتالتهم إسرائيل بدم بارد. ثانيا: كنا نتصور ان يكون اول مطالب السلطة الوطنية الفلسطينية لعودة المحادثات مع إسرائيل هو رفع الحصار عن فلسطينيي قطاع غزة حتي ولو كانوا تحت حكم حماس, ذلك ان هويتهم وجنسهم وجنسيتهم فلسطينيون, دون قبول مبدأ التفاوض قبل رفع المعاناة عن فلسطينييغزة. ثالثا: ان اللعب بالمحور السياسي يضعف من المضمون البراجماتي لها, فالولاياتالمتحدة لن تقبل بصدور قرار ادانة قوي ضد إسرائيل ودليل ذلك المناورة الذي تزعمتها للاكتفاء ببيان رئاسي ليس له صفة الزامية. رابعا: الاجدي في هذه المرحلة اللعب بمحاور اكثر فاعلية واكثر واسرع تأثيرا واهمها: المحور الإنساني, والمحور القانوني, ومحور المنظمات الأهلية والإنسانية ثم المحور الإعلامي والذي يبدأ من الإعلام التقليدي والالكتروني مثل الفاس بوك وغيره من اساليب التواصل مع منظمات حقوق الانسان في الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية والمسلمة والمسيحية واليهودية بل وحتي الإسرائيلية لتوضيح الجرم الذي ارتكبته اسرائيل في حق دعاة انسانية من المدنيين العزل, وتوضيح مدي المعاناة الذي يعاني منها الشعب الغزاوي من دولة محتملة عليها التزامات دولة, ومخاطبة منظمات حقوق الانسان الدولية والإقليمية والأهلية لكسب تأييدهم للقيام بموقف ضد إسرائيل. وتفعيل كل الوسائل القانونية المتاحة لتحريك الدعاوي ضد إسرائيل وحكامها وقادتها سواء في المحاكم الجنائية الدولية أو منظمات القانون الدولي الدولية والإقليمية والأهلية, ومخاطبة المنظمات السياسية لتزكية الإدانة الانسانية والقانونية والشعبية لما قامت به إسرائيل, مع التركيز علي الولاياتالمتحدة وربما إسرائيل في الداخل. خامسا: استغلال موجة التعاطف الدولي مع موقف فلسطيني قطاع غزة لتقنين اسلوب تقديم الدعم لهم عبر المنافذ المشروعة والمعابر المخصصة لهذا الغرض, لتقنين وضعهم ومنعهم من اتخاذ الاسلوب غير القانوني كمرادف لرفع المعاناة عن شعبه. سادسا: المتصور ان عملية تصفية الحسابات بين الولاياتالمتحدة وايران والتي تمركز تأثيرها علي فلسطينييغزة, لن تعود بسلام ولا أمان علي المنطقة الا بعد رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني في غزة.. فتيسير سبل الحياة لمواطني غزة ورفع المعاناة عنهم سوف يقلل من ارتباطهم بإيران, وسوف يبطل حيلة اعتماد حماس علي الدولة التي تقف مع شعبها.. وهنا سيكون اسلوب التنازل السياسي للموقف اكثر موضوعية عنه الآن. سابعا: مازلت عند موقفي من ان علي رئيس السلطة الفلسطينية ان يعتبر ان مهمته الاساسية هي رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية طالما كانت فلسطين تحت الاحتلال باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين في الداخل وفي الشتات, وعليه فان واجب رئيس السلطة الوطنية هو لم شمل الفلسطينيين حول المنظمة الوحيدة التي تعبر عنهم. ثامنا: ان الموقف المصري من فتح معبر رفح كان قمة في الأداء السياسي المصري, والذي يجب ان تتبعه بدعم فتح المعابر والمنافذ الساحلية والجوية علي القطاع, للانتهاء من مشكلة الاختراق لسيادة مصر في سيناء بدوافع انسانية. المزيد من مقالات محمود شكري