هذا التساؤل يظل يلح علي منذ سنوات طويلة.. ويزداد إلحاحا كلما نظرت حولي وأبصرت عمق أزمة الإسكان من ناحية وقبح العمائر الخرسانية ذات الواجهات الألوميتالية التي تحيط بنا من كل جانب من ناحية أخري: لماذا لم نستفد من رؤي وفلسفة هذا المعماري الفريد: حسن فتحي(1900 1989) ؟ لماذا لم تتحول أفكاره وأحلامه إلي واقع ملموس وحل عملي لمشكلة الإسكان المستفحلة المزمنة التي نعاني منها؟ المدهش في الأمر أن الرأي العام في مصر لايكاد يعرف الكثير عن منجزات هذا الرجل العظيم. والمؤلم أيضا أنه ظل منسيا ومهملا حتي من قبل المتخصصين في مجال العمارة لايؤخذ برأيه ولايحسب له حساب(!). حسن فتحي صاحب فلسفة العمارة التي تكرس( لخدمة) البشر وراحة الناس العادية.. ظل مهموما طوال حياته بالاجابة عن هذا السؤال الصعب: كيف نقيم عمارة بسيطة وجميلة وغير مكلفة تعكس هوية الشعب وجذوره وتنبض بروح المجتمع. ظل هذا المعماري( الشعبي) يؤصل معه في كل صرح يقيمه في أرجاء المحروسة هذه الفلسفة النبيلة. وكان الحصاد وافرا... قري.. وفيلات.. واستراحات.. واسطبلات. وشقق. ومزارع. أينما وطأت قدماه.. في كل شبر من تراب مصر.. في الأقصر والفيوم والجيزة والزقازيق والمرج.. في أرجاء القاهرة القديمة وأحيائها العريقة تشهد عمارته علي أفكاره ورؤاه ومحاولاته الدءوب لترسيخ فلسفته.. أدار المعماري القدير ظهره الي تلك المباني الشاهقة العملاقة التي يحلو للأثرياء السكني في أرجائها. وشخص ببصره نحو تلك البنايات الصغيرة البسيطة التي تلبي الاحتياجات الأساسية للأسرة.. أنصت إلي صوت الفقراء.. استمع الي أنينهم.. وسعي جاهدا أن يحقق لهؤلاء البسطاء حلما عزيزا غاليا طالما راودهم ولم يتمكنوا يوما من أن يعيشوا في رحابه.. حلم اقتناء شقة صغيرة.. والعيش في أمان في خضم حوائط وجدران تبث معها السعادة والحبور لكل افراد الأسرة.. أدرك الرجل مبكرا أهمية الأخذ في الحسبان للظروف البيئية والمناخية التي تسود بلادنا. فالمبني عنده يعكس طبيعة البلد.. ويتواءم مع أحواله وطبيعته. فعمل دائما علي انتقاء المواد الخام المناسبة التي لاتثقل كاهل البسطاء من ناحية, وتراعي معها الظروف المناخية والبيئية من ناحية أخري.. بنايات حسن فتحي تقف في كبرياء ونبل في قلب رمال الصحراء بواجهاتها الشعبية وملامحها المصرية العذبة. وكأنها تقول لنا في شموخ. أنا بناية مصرية بسيطة حقا في التصميم لكنني أستطيع ان ألبي احتياجات الجميع.. الفقراء قبل الأثرياء.. الكتاب الذي بين أيدينا اليوم حسن فتحي.. المدرسة والمسيرة الصادر عن مكتبة الاسكندرية يقدم عبر صفحاته(260 صفحة من القطع الكبير) بانوراما شاملة لفكر وفلسفة هذا المعماري الكبير وتضم صفحاته كذلك صورا ورسومات وتصميمات عديدة أقامها حسن فتحي عبر مشواره الطويل المثمر.. والكتاب لايؤرخ فقط لعمارة حسن فتحي بكل ملامحها وشخصيتها المميزة, بل إنه يؤرخ كذلك لنمط العمارة المصرية ذات الأصول الشعبية.. هذا النمط الذي فرض نفسه بقوة في أرجاء العالم, حاملا معه فلسفة( البعد الانساني) وهو البعد الذي حرص علي ابرازه دائما المعماري القدير. ويظل السؤال يطرح نفسه باحثا عن اجابة. لماذا لانستفيد من فكر وفلسفة حسن فتحي؟ لماذا لانضع في اعتبارنا منجزات هذا المعماري الكبير ونعمل علي تحقيقها ؟ سادتي.. هل من إجابة؟