الإجابات المقصودة في العنوان أعلاه ليست غائبة بمعني أنها غير موجودة, ولكن غيابها يرجع إلي أننا لا نبحث عنها, فإذا عرضت لنا بالمصادفة, فإننا في الغالب نتجاهلها تهربا من الاستحقاقات التي سوف ترتب علي الإقرار بها ومناقشتها علنا. مثلا لم نكلف أنفسنا يوما محاولة التعرف بطريقة علمية علي ما يسمي بالصورة الذهنية لمصر لدي من نسميهم بالأشقاء الأفارقة في حوض النيل, كما لم نحاول في يوم من الأيام أن نعرف معالم الصورة الذهنية لهؤلاء الأشقاء عندنا نحن المصريين. أهمية البحث عن هاتين الصورتين الذهنيتين للأفارقة في مصر, وللمصريين في إفريقيا النيلية تفوق ما عداها من الاعتبارات القانونية والدبلوماسية والهندسية في قضية النيل في اجتهادي المتواضع, لاسيما أن التشخيص السليم هو نصف إن لم يكن كل الطريق نحو العلاج والشفاء, وسوف تتضاعف هذه الأهمية إذا تذكرنا أن الاعتقاد السائد عن حق في كثير من الدوائر العليا في مصر هو أن الجزء الأكبر من مشكلات العلاقات الدولية النيلية ذا طبيعة نفسية. في ندوة نظمها مركز معلومات مجلس الوزراء مؤخرا بمبادرة من الصديق العزيز السفير الدكتور عزمي خليفة, استفسرت من كوكبة الخبراء المشاركين عما إذا كان أحد قد سمع بوجود دراسات ميدانية علمية حول صورة مصر في بقية دول حوض النيل, وصورة الأشقاء الأفارقة في دول الحوض لدي الرأي العام المصري ولدي الدوائر الرسمية في مصر, وبالطبع كان الاستفسار ينطوي علي استنكار التقصير الفادح من جانبنا في هذا النوع من الدراسات, علي الرغم من أهميته الفائقة, ولحسن الحظ, وسوئه في آن واحد رد الدكتور إبراهيم نصر الدين الأستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية بالقاهرة بأنه قام بإجراء دراسة واحدة للصورة الذهنية لمصر في عدد من دول حوض النيل وهذا هو الجزء الحسن في رد الدكتور نصر الدين, وحسب علمي فإن هذه الدراسة هي الوحيدة من نوعها, وأن النتائج كانت شديدة السلبية, وهذا هو الجزء السيئ في الرد, ولو أنه كان متوقعا. وحسب ما فهمت فإن دراسة الدكتور إبراهيم نصر الدين اعتمدت علي تحليل مضمون للمواد الإعلامية حول مصر في الدول التي أجريت عليها, أما الخبرة المباشرة لكاتب هذه السطور سواء من خلال متابعة الكتابات الإفريقية أو من خلال الاتصال الشخصي بدبلوماسيين وخبراء من هنا وهناك فإنها تؤكد أن سوء الفهم, وتشوه الصورة الذهنية متبادلان بين مصر وبين أشقائها في بقية دول الحوض, مع بقاء السودان حالة خاصة, وليس عامل اللون والعرق هو وحده السبب في هذا التشوه, وذلك السوء في الفهم, فهناك خبرات التاريخ القديم والحديث, التي كرست لدينا اعتقادا بأننا الأرقي والأفضل والأقوي, وهو اعتقاد لم نجد غضاضة في تضمينه كل أنواع العلاقات والمعاملات وحتي الإيماءات مع هذه الدول حكومات وخبراء وشعوبا. ومع أننا كنا وربما لا نزال الأكثر تقدما من نواح عديدة بين دول حوض النيل, فإن الإلحاح المستمر علي هذه الميزة يثبت في أذهان هؤلاء الآخرين أنك تعتقد أنهم أقل منك, وأنك سوف تعاملهم علي هذا الأساس, وأن عليهم أن يقبلوا هذه المرتبة الأدني, بما أن تلك طبيعة الأمور, وهكذا يفسر كل خطأ بل وحتي كل صواب من ناحيتك طبقا لعقدة الاستعلاء في مصر, وطبقا لعقدة الدونية عندهم, مع أنهم قد لا يودون الاعتراف بذلك, فضلا عن أنهم لا يقبلون التعامل علي هذا الأساس.. تماما مثلما نرفض في مصر أن يعاملنا الأوروبيون والأمريكيون علي أنهم الأرقي والأقوي, مع أنهم كذلك فعلا, بكل المقاييس, وبالمناسبة فهذه العقدة موجودة بيننا وبين كثير من الشعوب العربية, وربما كان الموقف سوف يختلف كثيرا لو أننا انتبهنا مبكرا إلي إدراك هذه الأحزان الإفريقية نحونا, ولم نكتف في كل مرة يتحدث فيها مسئول في إحدي دول الحوض عن استئثار مصر بالنصيب الأكبر من مياه النيل, بالاستناد إلي الحقوق التاريخية, وسنن الطبيعة, والمعاهدات الموقعة والتصرف علي أساس أنهم لا يقولون إلا لغوا, وأن تهديداتهم غير قابلة للتنفيذ. هل هم حقا لا يقولون إلا لغوا؟ وهل كل تهديداتهم غير قابلة للتنفيذ فعلا علي الأرض, ودعك من أنهم نفذوا فعلا تهديدهم بتوقيع اتفاقية إطارية جديدة بعيدا عن مصر والسودان؟ الإجابات عن هذين السؤالين غائبة أيضا. لكن ليس من المتوقع أن يكون كل هذا الذي حدث لا أساس قانونيا له, ففي حالة إثيوبيا مثلا فهي لم توقع في أي يوم من الأيام معاهدة نيلية مع مصر والسودان, ولا تنفع معها إذن حجة المعاهدات القائمة, أما مسألة الحقوق التاريخية وهي حق لا مراء فيه فإنها عرضة للجدل القانوني حاليا وبكل أسف بعد أن أقرت اتفاقية الأممالمتحدة للأنهار الدولية مبدأ الاستخدام المتوازن لمياه هذه الأنهار بموازاة مبدأ الحقوق التاريخية, وأما من حيث قابلية التهديدات للتنفيذ, فإن متغيرات جديدة قد ظهرت, وسوف تظهر متغيرات أخري جديدة كثيرة منها مثلا سباق الاستثمارات الأجنبية الكبيرة علي الاستثمار الزراعي في إفريقيا, مما يوفر مصالح سياسية وقدرات اقتصادية علي تنفيذ مشروعات ري كبيرة هنا وهناك في حوض النيل وتخومه, فهل لدينا دراسة وافية, ثم متابعات كافية لهذه المتغيرات؟ الإجابة غائبة, وهل تصل القدرات الاقتصادية والشروط السياسية في أي وقت في المستقبل إلي الحد الذي يمكن معه تحويل مجري النيل الأزرق إلي وادي أواش في شمال شرق إثيوبيا؟ الإجابة أيضا غير واضحة. وأخيرا أين هي الدراسات حول إمكانات وتكاليف التحول في مصر من نظام الري بالغمر إلي الري بالتنقيط, وأين هي الجهود الكفيلة بالحد من البخر في بحيرة السد العالي؟ مع أنها بسيطة جدا, وفعلها غيرنا كثيرون.. ولا تتطلب سوي تغطية أكبر مساحة ممكنة من سطح البحيرة ببالونات بلاستيكية عملاقة؟ الإجابات علي كل هذه الأسئلة غائبة هي الأخري. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد