الانتخابات.. وإرادة الشعب    مع حلول المساء.. إقبال كثيف للناخبين بمدرسة أحمد عرابي بإمبابة    نفاد بطاقات الاقتراع في سفاجا وحلايب بسبب الإقبال الكثيف    بعد صعود حاد.. تراجع أسعار الذهب اليوم الثلاثاء بالتعاملات المسائية    الرئيس السيسي ونظيره الكيني يبحثان العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية في اتصال هاتفي    انقطاع التيار الكهربائى عن 24 قرية وتوابعها فى 7 مراكز بكفر الشيخ غدا    نأمل أن يحافظ القرار الأممى على ثوابت القضية الفلسطينية    عباس: نقترب من الانتهاء من دستور الدولة الفلسطينية    هذا ما وعد به ممداني كعمدة وهل سيتمكن من تحقيقه؟    أنشيلوتي ينصح لاعب ريال مدريد بالرحيل    تحديد موعد إقامة سوبر اليد بين الأهلي وسموحة في الإمارات    مصرع وإصابة شخصين في حادث انقلاب سيارة أثناء متابعة الانتخابات بأسوان    أول لقطات من حفل زفاف هايدي موسى على المذيع الرياضي محمد غانم في القلعة    السقا وباسم سمرة وشيرين رضا.. القائمة الكاملة لأبطال فيلم «هيروشيما»    مراسل إكسترا نيوز بالبحيرة: إقبال تاريخى وتسهيلات لوجستية للناخبين    الفراعنة.. والمتحف الكبير.. والأهرامات    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    سفير تركيا: فيدان يستقبل وزير خارجية مصر غدًا في أنقرة للتحضير لمجلس التعاون الاستراتيجي    الزمالك يشكو زيزو رسميًا للجنة الانضباط بسبب تصرفه في نهائي السوبر    تأجيل لقاء المصرى ودجلة بالدورى ومباراتي الأهلى والزمالك تحت الدراسة    مصر الجديدة للإسكان تغرد بأداء مالي متميز خلال أول 9 أشهر من 2025..تجاوز الإيرادات 1.27 مليار جنيه بنمو 42%    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    ضبط قائد سيارة نقل اعتدى على مواطن بالسب والضرب بسبب خلاف مرور    مستشفيات قصر العيني تنظم يوما تعريفيا للأطباء المقيمين الجدد (صور)    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    «بيحطوا روج للتماثيل».. فتيات يثيرن الجدل خلال زيارتها للمتحف المصري الكبير (صور)    المنظمة الدولية للهجرة تحذر من قرب انهيار عمليات الإغاثة في السودان    مسار يكتسح 15 أغسطس بخماسية في مجموعة الموت بدوري أبطال أفريقيا للسيدات    أوغندا تهزم فرنسا في كأس العالم للناشئين وتتأهل "كأفضل ثوالث"    الفريق ربيع عن استحداث بدائل لقناة السويس: «غير واقعية ومشروعات محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ»    بعد أزمة صحية حادة.. محمد محمود عبد العزيز يدعم زوجته برسالة مؤثرة    توافد الناخبين على لجنة الشهيد إيهاب مرسى بحدائق أكتوبر للإدلاء بأصواتهم    حادث مأساوي في البحر الأحمر يودي بحياة نجل المرشح علي نور وابن شقيقته    الاتحاد الأوروبي يخطط لإنشاء وحدة استخباراتية جديدة لمواجهة التهديدات العالمية المتصاعدة    ليفربول يبدأ مفاوضات تجديد عقد إبراهيما كوناتي    الحكومة المصرية تطلق خطة وطنية للقضاء على الالتهاب الكبدي الفيروسي 2025-2030    «هيستدرجوك لحد ما يعرفوا سرك».. 4 أبراج فضولية بطبعها    عمرو دياب يطعن على حكم تغريمه 200 جنيه فى واقعة صفع الشاب سعد أسامة    غضب بعد إزالة 100 ألف شجرة من غابات الأمازون لتسهيل حركة ضيوف قمة المناخ    مراسل "إكسترا نيوز" ينقل كواليس عملية التصويت في محافظة قنا    الكاف يعلن مواعيد أول مباراتين لبيراميدز في دور المجموعات بدوري أبطال أفريقيا    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك».. ندوة علمية حول "خطورة الرشوة" بجامعة أسيوط التكنولوجية    طقس الخميس سيء جدًا.. أمطار وانخفاض الحرارة وصفر درجات ببعض المناطق    شاب ينهي حياة والدته بطلق ناري في الوجة بشبرالخيمة    بعد قليل.. مؤتمر صحفى لرئيس الوزراء بمقر الحكومة فى العاصمة الإدارية    الرئيس السيسي يوجه بمتابعة الحالة الصحية للفنان محمد صبحي    إدارة التعليم بمكة المكرمة تطلق مسابقة القرآن الكريم لعام 1447ه    التغيرات المناخية أبرز التحديات التى تواجه القطاع الزراعى وتعيد رسم خريطة الزراعة.. ارتفاع الحرارة وتداخل الفصول يؤثر على الإنتاجية.. ومنسوب سطح البحر يهدد بملوحة الدلتا.. والمراكز البحثية خط الدفاع الأول    بعد غياب سنوات طويلة.. توروب يُعيد القوة الفنية للجبهة اليُمنى في الأهلي    إقبال على اختبارات مسابقة الأزهر لحفظ القرآن فى كفر الشيخ    وزير الصحة يؤكد على أهمية نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأدوية إلى مصر    محافظ الإسكندرية: انتخابات النواب 2025 تسير بانضباط وتنظيم كامل في يومها الثاني    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    "البوابة نيوز" تهنئ الزميل محمد نبيل بمناسبة زفاف شقيقه.. صور    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    بينهم أجانب.. مصرع وإصابة 38 شخصا في حادث تصادم بطريق رأس غارب    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: فصوص النصوص الصوفية (3/7)حفيف أجنحة جبرائيل

فى مقالة الأسبوع الماضى، توقفنا عند السيرة الذاتية البديعة، التى كتبها عن نفسه «الحكيم الترمذى» مازجاً بين سرد وقائع حياته، وحكاية الأحلام (الرؤى) التى رآها أو رأته زوجته فيها.. واليوم، نتوقف عند نصٍّ أدبى فريد، هو (رؤيا) قدَّمها لنا السهروردى فى قصته الشائقة المشوِّقة التى جعلها بعنوان «حفيف أجنحة جبرائيل» لأنها تفسِّر الاعتقاد الصوفى، الإشراقى، القائل بأن جميع ما فى الوجود، هو صوت جناحىْ الملاك جبرائيل.. مَنْ هو السهروردى؟
هناك مجموعة من المشاهير فى تراثنا، يحملون هذا اللقب الذى هو «نسبة» إلى بلدة سُهْرَوَرْد الواقعة ببلاد فارس (إيران الحالية).. وأشهر هؤلاء اثنان، كلاهما يحمل الكنية ذاتها، واللقب، ويفرِّق بينهما المؤرِّخون بذكر أهم مؤلفات كُلٍّ منهما، فيقولون، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب عوارف المعارف، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب حكمة الإشراق..
ومقصودنا منهما فى هذه المقالة، الثانى، وهو الملقب أيضاً بشيخ الإشراق، مع أنه قُتل فى شبابه (فى سن السادسة والثلاثين) لكنه يُعرف بشيخ الإشراق، لأنه مؤسس الاتجاه الصوفى الشهير، المعروف باسم (الإشراقية) لأنه يقوم على فكرة رئيسة، هى أن الوجود عبارة عن مراتب نورانية متتالية، أعلاها ومنشؤها هو نور الله.
وللسهروردى الإشراقى (المقتول بقلعة حلب، سنة 587 هجرية) مؤلفات كثيرة بالعربية والفارسية، منها كتبٌ مثل: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، اللمحات فى الحقائق. ومنها قصص قصيرة، بديعة اللغة والأفكار، مثل قصة (الغربة الغربية) التى نشرتها فى كتابى: «حىّ بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها»..
وقصة: صفير العنقاء (صفير سيمرغ) التى كتبها بالفارسية. والقصة التى سنتعرف إليها بعد قليل (حفيف أجنحة جبرائيل) وهى نصٌّ أدبى نادر كتبه السهروردى بالفارسية أولاً، ولا نعرف إن كان قد ترجمه للعربية بنفسه، أو أن غيره قام بذلك.
ونصُّ القصة الذى سنراه بعد قليل، بعد عمل الضبط المناسب له، نشره د.عبدالرحمن بدوى فى كتابه: شخصيات قَلِقَة فى الإسلام، اعتماداً على النسخة التى وجدها المستشرق الفرنسى، المتصوف (لوى ماسينيون) بين كتب وأوراق المستشرق الألمانى الشهير (باول كراوس) الذى انتحر بالقاهرة عام 1944، لأسباب غامضة، مازالت مجهولة!
وقد جعل كراوس عنوان القصة، بالعربية: أصوات أجنحة جبرائيل! وقد رأيتُ هنا، أن كلمة (حفيف) أدقُّ وأقربُ إلى مقصود السهروردى بالعنوان الفارسى (آواز بر جبرائيل) ناهيك عن أنها أصح لغوياً. لأن هذه القصة الرمزية، تخبرنا بأن ظهور (الموجودات) نابع من حفيف أجنحة جبرائيل، التى تشبه أشجاراً ضخاماً تتولد الموجودات من حركتها.
.. وأرجو من القارئ أن يصبر على النص التالى، الذى سنقدم منه فقرات مطولات، باعتباره أنموذجاً لفصوص النصوص الإبداعية التى كتبها المتصوفة. ولسوف نلحق النصوص ببعض التعليقات الشارحة، التى من شأنها إضاءة النص إذا قُرئ ثانية، بعد قراءة الشروحات الموجزة.. قال شيخ الإشراق:
■ ■ ■
لمَّا انطلقتُ من حُجرة النساء، وتخلصتُ من بعض قيود ولفائف الأطفال. كان ذلك فى ليلةٍ، انجاب فيها الغَسَقُ الشُّهَبىُّ الشكل، مستطيراً عن قبة الفلك اللازوردى، وتبددتْ الظُلمةُ التى هى أخت العدم، على أطراف العالم السفلى.
وبعد أن أمسيتُ فى غاية القنوط من هجمات النوم، أخذتُ شمعاً فى يدى، متضجراً، وقصدت إلى رجال قصر أمى. وطوَّفتُ فى ذلك الليل ، حتى مطلع الفجر. وعندئذ، سنح لى هَوَسُ دخولِ دهليز أبى. وكان لذلك الدهليز، بابان: أحدهما إلى المدينة، والآخر إلى الصحراء والبساتين. قُمْتُ، فأغلقتُ الباب الذى يؤدى إلى المدينة إغلاقاً محكما، وبعد رتجه، قصدتُ إلى الفتق الذى يؤدى إلى الصحراء. وعندما رفعتُ الترس، نظرتُ، وإذ عشرةُ شيوخٍ، حسان السيماء، قد اصطفوا هناك صفاً صفاً.
وقد أعجبتنى هيئتهم وجلالتهم وهيبتهم وعظمتهم وسناهم، وظهرتْ فىَّ حيرةٌ عظيمة من جمالهم وروعتهم، حتى انقطعتْ عنى مُكْنةُ نطقى. وفى وَجَلٍ عظيمٍ، وفى غايةٍ من الارتجاف، قَدَّمْتُ رجلا وأخَّرتُ أخرى. وعندئذ قلت لنفسى: لنتشجعْ، ولنكنْ مستعدين لخدمتهم، وليكن ما يكون.
سرتُ رويداً إلى الأمام، للسلام على الشيخ الذى وقف فى طرف الصف، غير أنه بسبب غاية حسن خُلُقه، سبقنى بالسلام، وتبسَّم فى وجهى تبسُّماً لطيفاً، حتى تجلَّى شكلُ نواجذه أمام حدقتى. ورغم مكارم أخلاقه وشِيَمه بقيتْ مهابته تغلب على نفسى. فسألته: من أين أقبل هؤلاء السادة، إن جاز لى السؤال؟ فأجابنى الشيخُ الذى على طرف الصف، قائلاً: إننا جماعة متجردين، وقد وصلنا إليك من كجا آباد.
لم أفهم مقاله، فسألته: فى أى إقليم توجد تلك المدينة؟ فقال: فى إقليم لا تجد السبَّابة إليه متجهاً. وإذ ذاك علمت أنه شيخٌ مطَّلع. قلت: أخبرنى بفضلكم، ما الذى يشغلكم أكثر أوقاتكم؟ قال: إن حرفتنا الخياطة، وكل واحدٍ منا يحفظ كلام الرب عن سلطانه، وإننا لسائحون. سألته ولماذا يلازم الصمت هؤلاء الشيوخ، الذين يقفون على رأسك؟ فأجاب: لأن أمثالكم ليسوا أهلا لمحاورتهم، أنا لسانهم، وأما هم فلا يكلمون أشباهك.
.. قلتُ: أتسبحون الله عزَّ وجلَّ؟ قال: الاستغراق فى المشاهدة يشغلنا عن التسبيح، وإن كان هناك تسبيح، فإنه ليس بواسطة الألسن والجوارح، ولا بحركةٍ واهتزازٍ وما إليه . قلت: هل تعلمنى علم الخياطة؟ فتبسَّم وقال: للأسف، ليس لأشباهك ولنظرائك قِبَلٌ بهذا، فإن ذلك العلم غير ميسَّر لنوعك، وذلك أن خياطتنا لا تتعلق بعمليةٍ وقَصْدٍ وآلةٍ، لكنى سأعرفك من علم الخياطة، قَدْر ما يمكِّنك من تصليح خرقتك الخشنة المرقعة.
وقد علمنى ذلك القدر من العلم.. ثم قلت: علِّمنى الآن كلام الله. قال: إن المسافة عظيمة، وما دُمتَ فى هذه القرية، فلا يمكنك أن تتعلم كثيراً من كلام الله تعالى، ولكنى أعلِّمك قَدْر ما أنت ميسَّر له! وأحضر لوحاً وعلَّمنى حروف هجاء عجيبة، حتى إننى استطعت أن أفهم بواسطة الهجاء، معنى كل سورة من السور.
ثم قال: الذى لا يفهم هذا الهجاء، لا يصل إلى معرفة سُوَر كلام الله، على ما ينبغى؛ وأما الذى اطَّلع على أحوال ذلك الهجاء، فقد يظهر فيه رسوخٌ ومتانة.
وعندئذ تعلَّمتُ علم الأبجد. وبعد إتمام دراستى إياه، نقشتُ حروفه على اللوح، على قدر ما كان فى مرتقى قدرتى، ومَسْرَى طاقتى. وعندئذ ظهرت لى من عجائب معانى كلام الرب، عزَّ سلطانه، ما لا يدخل تحت حصر البيان، وحَدِّه. وكلما طرأت لى مشكلة، عرضتها على شيخى وهو يزيح إشكالها.
ثم دار حديثنا حول نفث الروح، وقد أشار الشيخُ إلى أن الروح يشتق من روح القدس. وعندما سُئل عن نسبة ما بينهما، أجاب قائلاً: إن كل ما يتحرك فى أربعة أرباع العالم السفلى، يشتق من أجنحة جبرائيل.
ولما باحثت الشيخ فى كيفية هذا النظام، قال: اعلمْ أن للحق سبحانه وتعالى، عدة كلمات كبرى، تنبعث من كلماته النورانية، أى من شعاع سيماء وجهه الكريم. وبعضها فوق بعض.. وآخر تلك الكلمات: جبرائيل عليه السلام. وأرواح الآدميين تنبعث من تلك الكلمة الأخيرة.. الآدميون نوعٌ واحد، ومن له روحٌ فله كلمةٌ. ومن آخر الكلمات الكبرى، تظهر كلماتٌ صغرى من غير حَدٍّ، على ما أشير إليه فى الكتاب الربانى بقوله (ما نفدت كلمات الله) وقال (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى).
أما الكلمات الكبرى، فهى التى قيل عنها فى الكتاب الإلهى (فالسابقات سبقا) وأما قوله (فالمدبرات أمرا) فهم الملائكة، محركو الأفلاك، وهى الكلمات الوسطى. وكذلك، فإن قوله تعالى (وإنا لنحنُ الصَّافون) إشارة إلى الكلمات الكبرى، وقوله (إنا لنحن المسَبِّحون) إشارة إلى الكلمات الوسطى. ولأجل هذا تقدَّمت عبارة (الصافون) فى كل مكان من القرآن المجيد، إذ قال: (والصَّافَّاتِ صَفَّا، فالزاجرات زجراً) وفى هذا غورٌ بعيد، لا يليق استيعابه بهذا المحل! وقد تُستعمل «الكلمة» فى القرآن أيضاً، بمعنى السر.
قلت للحكيم: أخبرنى الآن عن جناح جبرائيل. قال: اعلمْ أن لجبرائيل جناحين، أحدهما عن يمينٍ وهو نورٌ محض، وهذا الجناح ينضاف مجرد وجوده إلى الحق. وأما الجناح الأيسر، فتمتد عليه بقعةٌ سوداء، كأنها الكَلَفُ الذى يظهر فى وجه القمر، أو كأنها تذكرنا بالألوان التى على قدم الطاووس. وفى هذا إمكان وجوده، الذى ينصرف جانبٌ منه إلى العدم. فإذا نظرت ما لجبرائيل من الوجود بجود الحق، فإنه يوصف بوجوب الوجود.
وإذا نظرت إليه بقدر استحقاق ذاته، فإنه يوصف بالعدم.. فهذان المعنيان، ممثلان فى جناحى جبرائيل: الأيمن إضافته إلى الحق، والأيسر استحقاقه فى ذات نفسه. كما قال الحق سبحانه وتعالى (وجاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع).. وإذا وقع من أوج القدس شعاع، ينشأ منه نَفْسٌ يسمونها كلمةٌ صغرى. ألا ترى أن هذا، ما قاله الحق تعالى (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا) فللكافرين أيضا كلمة . غير أن تلك الكلمة ، صدىً ممزوجٌ بحسب ما عليه أنفسهم.
ومن الجناح الأيسر، الذى يمتد عليه قَدْرٌ من الظلمة، يهبط ظِلٌّ هو عالم الزور والغرور. ويشير إلى شعاع الجناح الأيسر، ما ورد فى القرآن الكريم (وجعل الظلمات والنور) فإن تلك الظلمة، التى نُسبت إلى فعل (جعل) أصبحت عالم الغرور . وأما ذلك (النور) الذى ورد ذكره بعد الظلمة، فهو شعاع الجناح الأيمن.. وبهذا المعنى قال تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب) إذ إن الكلمة أيضاً من شعاعه. وكذلك قوله مَثَلاً، (كلِمَةً طَيِّبَةً) فهى كلمة شريفة نورانية، من بين الكلمات الصغرى.
وإن لم تكن تلك الكلمة الصغرى فى غاية الشرف، فكيف استطاعت أن تصعد إلى حضرة الحق تعالى. وأما أن الكلمة، والروح، تدلان على معنى واحد، فإن علامة ذلك (إليه يصعد الكلم الطيب) وكذلك (تعرج الملائكة والروح إليه) فإن عبارة (إليه) ترجع فى الحالتين إلى الحق جلَّتْ قدرته. وعلى هذا المعنى، تدل أيضا (النفس المطمئنة) إذ قال (ارجعى إلى ربك) وعالم الغرور، ليس إلا صدىً وظلاً لجناح جبرائيل، أعنى لجناحه الأيسر. بينما تصدر الأنفس المضيئة، من الجناح الأيمن.
قلت للشيخ: فما هى، فى آخر أمرها، صورة جناح جبرائيل؟ فأجاب: يا عاقل، كل هذه الأشياء ليست إلا رموزا، إن عَلِمْتَها على ظاهر معناها، كانت تخيلات لا حاصل لها.
قلت: وأين القرية التى قال الحق تعالى عنها: (أخرجنا من هذه القرية الظالِمِ أهلُها) قال: ذلك عالم الغرور، الذى هو أليق محلٍّ للكلمة الصغرى. ثم إن الكلمة الصغرى أيضا قرية، لأن الله تعالى قال (تلك القرى نقصُّ عليك من أنبائها) و(منها قائم وحصيد) فهى كلمات الحق تعالى، كبيرة كانت أو صغيرة .
.. وعندما ارتفع على قصر أبى، فجر النهار. أُغلق الباب الخارجى وفُتح باب المدينة، وذهب التجار إلى أشغالهم، وتغيَّبتْ عنى جماعةُ هؤلاء الشيوخ، وبقيتُ فى حسرةٍ متشوقاً إلى صحبتهم، عاضا أناملى، وصارخا: ياويلى، إظهاراً لعظمة حيرتى.. ولكن لا فائدة بعد.
■ ■ ■
قال الناسخ: هنا تنتهى قصة حفيف جناح جبرائيل عليه السلام.. ومن أفشى لطائف أسرار ذلك الشيخ العظيم الشأن، إلى العوام وإلى غير أهلها، ستنفصل نفسه عن بدنه، وسيصبح فضيحة الرجال. وربنا مشكور ومحمود، والصلاة على محمد، وآله، وسلم تسليماً.
■ ■ ■
قبل تقديم الإشارة الشارحة لهذا النص العجيب، لابد من لفت الأنظار إلى أن لهذه القصة ديباجة (مقدمة) احتوت على قصة أخرى، ملخصها أن أحد المنكرين على الصوفية، اعترض على أقوالهم واعتبرها هذياناً.. يقول السهروردى فى ديباجة القصة: حدث فى يوم من الأيام، فى محفل ناس قد أصاب بصرهم الرمدُ، أن رجلا سخر بمناصب سادات الطريقة وأئمتها. ولقصر نظره، تكلَّم من غير روية فى مشايخ السلف. ولأجل تقوية رأيه المنكر، استهزأ بمصطلحات المتأخرين، حتى بلغت جسارته أن أورد حكاية عن الأستاذ أبى علىّ الفارمذى، رحمه الله، قائلاً: إنه سُئِلَ لِمَ سَمَّى ذوو الخرقة الزرقاء بعض الأصوات أصوات أجنحة جبرائيل؟
فأجاب: اعلم أن أكثر الأشياء التى تشاهدها حواسك، تنبعث من أجنحة جبرائيل! وقال للسائل: إنك أنت أحد أصوات أجنحة جبرائيل.. وقد أبى ذلك الخصم المتعسف، أن يعترف بمثل هذا الكلام قائلاً: ماذا يمكن أن يكون معنى هذه الكلمة إلا هذيانا مزخرفاً؟ ولما بلغ تجاسره إلى هذا الحد، شمرتُ عن ساعد الجد، لأزجره.
وهكذا كان ذلك، هو السبب فى تأليف السهروردى لهذه القصة الرمزية التى ابتدأها بانطلاق الروح من أسر الطبيعة (حجرة النساء) وارتقائها عن أحكام المحسوس (قيود ولفائف الأطفال) بملازمة الرياضات الصوفية والمجاهدات (الشموع) التى تكشف ظلام الوجود الحسى.
والجسم الإنسانى هو المقصود بقوله «قصر أمى» لأنه صنعة الطبيعة، أما العالم العلوى (الروحانى) فهو مقصوده بقوله «قصر أبى».. والشيوخ المتجرِّدون، هم العقول السماوية التى لا اتصال بينها وبين العقل الإنسانى، إلا من خلال حلقة واحدة، هى (العقل الفعَّال) الذى يمثل سقف العقل الإنسانى، وقاعدة العقول السماوية العلوية.
وجبريل فى النص، هو المعادل الموضوعى لروح القدس! ونتاج حفيف جناحيه، هى الموجودات الكلية والأنواع، والموجودات الجزئية والشخوص.. ولن أزيد هنا فى بيان (دلالات) هذا النص الرمزى، لأن المراد من إيراد ما قدَّمناه، ليس التعرُّف إلى (أفكار) السهروردى الإشراقية، وإنما الاقتراب من نصٍّ تراثىٍّ فريدٍ، مهجورٍ، والتعرف إليه أسلوبياً.. وفنياً.. وأدبياً.
فهلاَّ قرأنا النصَّ ثانيةً!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.