حوار عابر مع الدكتور ماجد عثمان.. رئيس مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء فتح الباب أمامي علي قائمة طويلة ورصينة بعشرات من الدراسات والتقارير التي تصف كل ملمح من ملامح الحياة في مصر: ماذا يأكل المصريون وماذا يركبون وماذا يشاهدون ويقرؤون وكيف ينظرون إلي بعضهم البعض وكيف تتغير معتقداتهم وكيف يرون العالم من حولهم وكيف يرون أنفسهم وكيف استجابوا إلي التغيرات العالمية. كنت أعتقد أن مثل تلك التقارير والدراسات الصادرة عن مركز تابع مباشرة لرئيس الوزراء لن تقول في أحسن الأحوال سوي نصف الحقيقة. وأعترف بأن هذا الاعتقاد لم يكن صحيحا. فالحقيقة العلمية الموثقة قائمة في كل صفحة قدر لي أن أطالعها. قد نختلف في التفسير ولكن الحقيقة قائمة وموثقة بمنهجية علمية لا تقبل الكثير من الاختلاف. آخر ما طالعت من أعمال مركز المعلومات دراسة حول طرق اكتشاف الموهوبين والنابغين من المصريين لمجموعة من الباحثين بإشراف الدكتور زين العابدين درويش. وهي دراسة مهمة لشعب مهموم بأبنائه إلي أبعد مدي. وهي مهمة أيضا لأنها تواجه أوهاما سادت بأن عصر نبوغ المصريين قد ولي. وهي أخيرا تكشف أمام الجميع طرق اكتشاف المواهب الكامنة في انتظار ما لم يجيء. استنادا إلي البحوث العلمية فإن نصيب مصر من الموهوبين او العباقرة لايقل عن مليوني شخص. فنسبة الموهوبين إلي الجمهور العام في أي مجتمع تتراوح بين2 و5%. ونحن بعدد السكان الأوفر حظا في المنطقة في عدد العباقرة والموهوبين. هذه الثروة الطبيعية فائقة القيمة أين هي وكيف تعيش وماذا تفعل بما لديها من تفوق وموهبة؟ والمؤكد أن بينها من يمارس النصب والاحتيال والجريمة ومنها من يهيم في الشوارع مطرودا من بيئة اجتماعية تفككت ومنها من ألجأته الأيام إلي عمل بسيط لا يتفق وموهبته ولا يعبر عن عبقريته. كانت مصر الأسبق في المنطقة بأسرها إلي الاهتمام بالموهوبين منذ عصر محمد علي حين ابتعث بعضا منهم للدراسة في أوروبا. وشهدت مصر أول مدرسة في العالم العربي لرعاية هؤلاء وأنشئت في وزارة التربية والتعليم إدارة لاكتشاف ورعاية الموهوبين. وفي طول البلاد وعرضها انتشرت مراكز الشباب ونوادي العلوم ونوادي الموهوبين وقصور الثقافة. ولكنها جميعا اتخذت من الموهوبين شعارا براقا, ومن العشوائية والارتجال أسلوبا للعمل. كان من المفروض أن تتعدد بهذه الجهات طرق الكشف عن المواهب ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. الموهوبون في مصر هم الأولي بالرعاية الفائقة. فإذا كنا لا نستطيع أن نقدم الرعاية الواجبة للجميع فليس أقل من أن نوفر ذلك المستوي من الرعاية لتلك الفئة التي وهبها الله قدرة زائدة عن غيرهم. ولو أن هذه الفئة من الموهوبين لقيت الرعاية الكافية والتعليم الملائم لأصبحت بمرور الأيام قوة قادرة علي دفع المجتمع إلي الأمام وتحسين ظروف التعليم والرعاية لمن هم أقل موهبة. مؤسسات التعليم في بلادنا تدفع إلي سوق العمل بنحو300 ألف خريج سنويا نعلم جيدا أن الغالبية العظمي منهم غير مؤهلة وتفتقر إلي الحد الأدني من المهارات اللازمة. في سنغافورة تدفع الجامعات سنويا بنحو15 ألف خريج وفي فنلندا17 الف خريج. وبجهد ومهارات هذه الآلاف الصغيرة تبني فنلندا وسنغافورة قوتها الاقتصادية المتنامية. إن الرعاية الحقيقية للموهوبين يمكن أن توفر لهذا البلد سنويا40 أو50 ألفا من الخريجين المؤهلين بالمواصفات العالمية الذين يستطيعون بمهاراتهم العالية دفع اقتصاد المجتمع وقدراته خطوات إلي الأمام. لقد هاجمنا تجربتنا الاشتراكية السابقة لكونها أسهمت في توزيع الفقر ولكن تجربتنا التعليمية الراهنة قائمة حتي الآن علي اقتسام الجهل. من هؤلاء الموهوبين يمكن أن نبني جزرا متقدمة تتسع شيئا فشيئا لتجر المجتمع بأسره بعيدا عن جاذبيات التخلف. غير أن السؤال المهم والذي ألح علي تلك الدراسة التي اشرت إليها كيف نكتشف هؤلاء الموهوبين؟ نحن نعتمد في اكتشاف الموهوبين علي التحصيل الدراسي مثلما تفعل كثير من دول العالم. نحتفي كثيرا بأوائل الشهادات علي اعتبار أنهم موهوبون أو نابغون أوعباقرة رغم أن متابعة تحصيلهم الدراسي في الجامعة لا تشير إلي الكثير من الموهبة أو النبوغ. ففي كثير من الأحيان لايحقق أوائل الثانوية العامة شيئا من التفوق أو النبوغ في الدراسة الجامعية إن لم يواجه البعض منهم شيئا من التعثر. وإذا كان التحصيل الدراسي وسيلة للكشف عن الموهوبين في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة وبعض بلدان آسيا مثل الصين واليابان كما تشير الدراسة, إلا أن النظم التعليمية المطبقة في بلادنا لا يمكن أن تجعل من التحصيل الدراسي الطريقة الأهم في الكشف عن الموهوبين. ففي ظل نظام تعليمي يقوم علي الحفظ والتلقين يصبح التحصيل الدراسي مرتبطا بقدرة الطلاب علي الحفظ والاسترجاع. فكلما زادت قدرات الطالب علي الحفظ والاستظهار زاد تحصيله الدراسي وليس في ذلك نبوغ أو تفوق أو عبقرية. وقد وجدت الدراسة التي اشرت إليها أن ما يقرب من20% من المتفوقين والمتفوقات دراسيا حققوا نسبة ذكاء أقل من المتوسط. بل إن65% منهم كانوا متوسطي الذكاء وهي نفس نسبة متوسطي الذكاء في مجموعة الطلاب غير المتفوقين. ومن ناحية أخري فإن قياس قدرات التحصيل الدراسي تخضع للامتحانات المدرسية التي تعاني الكثير من المشاكل المنهجية وتفتقر لكثير من أدوات التقييم الحقيقية. وهي في النهاية غير قادرة حتي علي قياس ما صممت لقياسه. وأخيرا فإن المناهج الدراسية صممت لتكون في مستوي الطالب العادي ولا تمثل دافعا يستثير قدرات الطلاب الموهوبين. وتشير الدراسة ايضا إلي أن ترشيحات المعلمين تعد إحدي أبسط طرق اكتشاف الموهوبين وأكثرها استخداما. فإن استخدام هذه الطريقة تكتنفه صعوبات شتي بالنظر إلي القدرات الراهنة للمعلمين وضعف تأهيلهم, فقد تدهور مستوي المعلمين إلي الحد الذي لا يمكن معه الاعتماد عليهم في اكتشاف المواهب والعبقريات. بقيت طريقة ثالثة يبدو لي أنها الأكثر نفعا في ظل ظروفنا الراهنة. اكتشاف الموهوبين من صغار السن يظل مسئولية أولياء الأمور. ففي كثير من الحالات كان الوالدان أكثر قدرة ودقة وفاعلية من المعلمين في اكتشاف مواهب الأبناء في سنوات العمر المبكرة. وبشيء من التوعية ونشر ثقافة إجراء اختبارات الذكاء واختبارات الإبداع يمكن التغلب علي مشكلات الاعتماد علي الوالدين في اكتشاف نوابغ المصريين. صحيح أننا سوف نفقد الكثير من النوابغ ممن يولدون لأسر منخفضة الثقافة والوعي, إلا أن اكتشاف نصف النوابغ في مصر أفضل كثيرا من فقدانهم جميعا. وحتي يمكن نشر تلك الثقافة بين الأسر المصرية أتمني من المسؤولين عن تلك الدراسة أن يصدر عنهم شيء مبسط ومفهوم للقارئ المتعلم العادي بدلا من الإغراق في المعاملات الإحصائية والشروح العلمية التي تزيد الأمر علي القارئ العادي غموضا.