ينبغي أن يكون التقرير العلمي حول استمرار صلاحية منطقة الضبعة في الساحل الشمالي لإقامة أول محطة نووية مصرية هو المعيار الوحيد في حسم الجدل الذي آثاره سعي بعض المستثمرين إلي إقامة مشروعات سياحية في هذه المنطقة. ويفترض أن يكون الاستشاري العالمي ورالي بارسونز( استرالي الجنيسة) قد سلم تقريره إلي وزارة الكهرباء والطاقة قبل أيام, وأن تكون عملية مراجعته بمعرفة خبراء مصريين قد بدأت. فالدراسة التي أجريت في بداية ثمانينيات القرن الماضي من جانب شركة فرنسية وخبراء مصريين, وانتهت إلي أن منطقة الضبعة هي الأكثر صلاحية لإقامة محطات نووية, مضي عليها أكثر من ربع قرن جرت خلالها مياه كثيرة في نهر الطاقة النووية, ولذلك فمن المنطقي التأكد مجددا من أن هذه المنطقة مازالت ملائمة فعلا لإقامة أول محطة نووية مصرية. ولكن المنطق يقضي أيضا بأن تكون الدراسة الجديدة هي وحدها المعيار الذي يتم علي أساسه اتخاذ القرار بشأن إقامة أول محطة نووية, بمنأي عن أي تدخل من أية جهة وبعيدا عن مصالح بعض المستثمرين أو غيرهم. ويقول المنطق أيضا إنه لا مجال هنا لخلط الأوراق حين تكون المصلحة الاقتصادية العامة والأمن القومي في جانب وبعض المصالح الاقتصادية الخاصة في الجانب الآخر, فلا مجال هنا لوضع إقامة محطة( أو محطات) نووية في الضبعة في مقابل الاستثمار السياحي, ولا لايجاد تعارض بين خياري الأمن القومي والتقدم الاقتصادي, ليس فقط لأن هذا التقدم لا تصنعه السياحة بالرغم من أهميتها ولكن أيضا لأن المشروع النووي المصري يجمع الخيارين معا. كما أنه لم يعد ممكنا في عصرنا الراهن فصل التقدم الاقتصادي عن الأمن القومي, ناهيك عن اختلاق تعارض بينهما, لأن الاقتصاد أصبح أهم عناصر القوة الشاملة للدولة. ولذلك يبدو غريبا إلي أبعد حد الزعم بأن وجود مناطق عدة يمكن أن تصلح لإقامة محطات نووية يتيح تخصيص الضبعة للاستثمار السياحي للاستفادة من طبيعتها الرائعة بتضاريسها وتلالها التي تطل علي ثلاثة خلجان ذات مياه زرقاء هادئة ويصل طولها إلي ما بين41 و51كم بعمق يتراوح بين ثلاثة وأربعة كيلومترات, فإذا كانت هناك مناطق أخري يمكن أن تصلح كمواقع لمحطات نووية, فهي قليلة مقارنة بتلك التي تلائم المشروعات السياحية. وهكذا كله بافتراض أن الحديث عن السياحة هنا يتسم بأي مقدار من الجدية, حتي لا نقول الصدق. فليست هناك سياحة أصلا في الساحل الشمالي بامتداده الطويل إلا علي سبيل الاستثناء في أماكن تاريخية محدودة للغاية يذهب إليها قليل من الأجانب, ولم يبذل أي من المستثمرين في هذا الساحل أدني جهد سعيا إلي جعله منطقة جذب للسياحة الأجنبية, ولذلك لم يكن لتعمير هذا الساحل أي دور في دعم النمو الاقتصادي, بل علي العكس كان ومازال أحد أسباب عدم بلوغ هذا النمو معدلات أعلي لأنه ساهم في تراجع إمكانات الادخار وبالتالي الاستثمار المحلي, ولأن الموارد التي أنفقت فيه كان يمكن أن تسهم في تغيير وجه الحياة علي أرض مصر لو أحسن إنفاقها, كما أن فرص العمل المحدودة التي أوجدتها هي من النوع الموسمي الذي يقتصر علي أشهر الصيف. ولهذا, فلا أساس من البداية لوضع الاستثمار السياحي في مواجهة المشروع النووي, ومع ذلك فلنفترض جدلا أن هناك أي نوع من الجدوي الاقتصادية وراء البحث عن موقع آخر غير الضبعة لإقامة محطتنا النووية الأولي, وأن الأمر يتعلق بالتالي بحساب المكاسب والخسائر, فأي حساب مجرد بعيد عن المصالح الخاصة والمزاعم التي لا تنطلي علي ذي عقل يقودنا إلي النتائج التالية: أولا: أن عدم إقامة المحطة النووية الأولي في الضبعة إذا تأكد علميا استمرار صلاحيتها يؤدي إلي تبديد هائل للموارد لا يمكن أن يقره ذو عقل. ومن هذه الموارد ما تم إنفاقه فعلا في هذه المنطقة. وهو يزيد علي مليار جنيه في بعض التقديرات. ولكن القسم الأكبر من الموارد التي تعتبر مبددة في هذه الحالة يأتي من فرق الزمن, لأن إنشاء المحطة الأولي في منطقة أخري غير الضبعة لن يبدأ قبل نحو خمس سنوات ستزداد خلالها تكلفة بناء هذه المحطة, وقد تصل هذه الزيادة إلي أكثر من الضعف. فالتأكد من توافر عوامل السلامة والأمن, وغيرها من شروط صلاحية أي منطقة جديدة يحتاج إلي دراسات تستغرق ما قد لا يقل عن هذه السنوات الخمس. وهذا فضلا عن أن منطقة الضبعة يمكن أن تقام فيها أربع محطات نووية سعة كل منها ألف ميجاوات. وثانيا: فلا منطق ولا عقل ولا حساب يقول إن استثمار هذه المنطقة سياحيا أفضل من تخصيصها لإقامة محطات نووية تشتد الحاجة إليها لتوليد الطاقة اللازمة للبناء الاقتصادي الذي يليق بمصر, ووضع البنية الأساسية الأولية التي قد تكون هناك حاجة إليها لضرورات الأمن القومي في مرحلة قادمة. وفي كل الأحوال, فالازدهار الاقتصادي هو نفسه أمن قومي ومصدر مكانة ودور, فضلا عن أثره في تدعيم تماسك المجتمع وثقته قي قدراته وفتح آفاق المستقبل أمام أبنائه وزيادة الفرص المتاحة لهم وتقوية شعورهم بالانتماء, وهذه كلها عناصر توضع في مراتب متقدمة بين مصادر القوة الشاملة للدولة.. أية دولة. فالدولة التي توضع علي طريق البناء والازدهار الاقتصادي وتنطلق فيه بدون معوقات جوهرية لا يقلقها ما قد يحدث حولها أو بالقرب منها, ومن هنا أهمية التعجيل بالبرنامج النووي المصري وربطه بمشروع متكامل للبناء الاقتصادي والتطور السياسي الديمقراطي حتي لا يشغلنا ما تفعله إيران عما ينبغي أن نعمله نحن, فالمشروع الذي يتوجه إلي المستقبل بهذا الأفق وعلي هذا النحو لا يحتاج إلي عسكرة البرنامج النووي لبناء القوة والمكانة اللتين فقدهما الاتحاد السوفيتي السابق بالرغم من أنه امتلك قوة عسكرية نووية كانت كافية لتدمير العالم عدة مرات. ولا شك أن ازدهار السياحة جزء من هذا المشروع, ولكن حين يكون في سياقه الصحيح. ولكن مزاعم الاستثمار السياحي في الضبعة تخرج عن هذا السياق, مثلها مثل الاستهانة بتاريخنا الوطني تحت شعار السياحة عندما نؤجر جزيرة مثل شدوان تحمل قبسا من هذا التاريخ في مزاد علني عام لحساب محافظة البحر الأحمر, فتأجير موقع لمعركة باسلة ستظل خالدة ليس من نوع الاستثمار السياحي الذي يسهم في بناء المستقبل, حتي إذا لم يكن هذا الموقع حيويا لأمننا القومي. وتحويل منطقة الضبعة إلي قرية سياحية ليس من هذا النوع أيضا, حتي إذا لم تكن هي المنطقة الأكثر صلاحية لانطلاق البرنامج النووي المصري.