شاركت في المؤتمر الذي شهدته القاهرة منذ أكثر من أسبوع عن التفاعل الثقافي في افريقيا بورقة بحثية عن رجل من جيل المؤسسين العظام لحلقات التواصل الثقافي بين دول الساحل وجنوب الصحراء, الفقية المجاهد سيدي محمدعبدالله السني(1821 1932) وقد ترك هذا الرجل بيته في قرية مزدة جنوبطرابلس عام1895 ولم يعد إليه الا عام1928 في رحلة علمية جهادية إلي مجاهل القارة الافريقية جنوب الصحراء الكبري استغرقت ثلاثة وثلاثين عاما يعمل خلالها متطوعا تحت امرة شيخ المجاهدين وزعيم الدعوة السنوسية سيد أحمدالشريف ومن قبله سيدي محمد المهدي, يؤسس المدارس القرآنية ويعلم فقراء تلك المناطق الافريقية الابجدية ويدخل لهم اولويات الحضارة الانسانية في بلدان تشاد ومالي والنيجر ونيجيريا, قبل ان يدخل فيما بعد في حرب الدفاع ضد قوات الغزو الفرنسي التي داهمت بلاد غرب السودان كما كان يسمي ذلك الجزء من افريقيا, حيث انخرط في قيادة المقاومة, منسقا للعمليات الحربية وقد انخرط معه وتحت قيادته كل من سيد عمر المختار وسيدي الفضيل بن عمر وهما من تولي قيادة المقاومة ضد الغزو الايطالي في ليبيا فيما بعد, وكل من سيدي البراني وسيدي عبدالله الطوير, وقد استشهدا في معارك الدفاع عن السودان الغربي, وسيدي البراني هو المجاهد الفقيه الذي يحمل اسمه المطار المدني والمنطقة المحاذية لمرسي مطروح في مصر, وكان يعمل تحت امرة هذا المجاهد قادة افارقة منهم السلطان احمد امود والسلطان محمد كوسن من زعماء الطوارق والمجاهد قجة عبدالله من زعماء تشاد ولهم جميعا سجل حافل في مقاومة الغزاة. وكان سيدي محمدعبدالله السني, شيخا لاكبر الزوايا القرآنية في منطقة تشاد, وهي زاية قرو, التي دارت حولها احدي اكبر المعارك عام1912, وقد نجا من الاسر باعجوبة في تلك المعركة, الا ان الجيش الفرنسي داهم بيته وقتل ثلاثة افراد من اسرته هم زوجته واثنان من اولاده وسقط بقية افراد العائلة جرحي وهم ثلاثة, ولدان وطفلة اسمها هند, فاخذهم الجيش الفرنسي اسري, وكانت هناك حرب اخري قد استعرت داخل بلاده ليبيا هي الحرب بين الغزاة الايطاليين وبين جيش المقاومة, فعاد إلي شرق البلاد ليساهم في رد الغزو, ولم يستطع ان يعود الي قريته مزده جنوبطرابلس وإلي بقية اسرته وسط ظروف الحصار التي تعيشها مناطق كثيرة داخل ليبيا بسبب الاحتلال, خاصة ان اثنين من اولاده ممن تركهم قبل هجرته, وهما سيدي أحمد السني وسيدي المهدي السني, كانا قد تسلما مقاليد القيادة لجبهات القتال ضد الايطاليين في غرب البلاد وجنوبها, ولم تحن الفرصة للقاء, الا بعد انصرام عدة اعوام حيث تم تدبير لقاء بين المجاهدين الثلاثة في مدينة من مدن الجنوب هي مدينة أوباري, في يوم من أيام عام1928, وباعتبار ان الاستعمار الايطالي كان يترصد الزعماء الثلاثة ويبث العيون التي تراقب سرا حركة كل منهم, فقد نصب لهم كمينا, بحيث ان لحظة اللقاء بين الاب وابنيه, كانت هي نفسها لحظة المداهمة الايطالية لمكان اللقاء, ليقع الثلاثة في الاسر, وتعم الادارة الايطالية الاحتفالات بهذا الانتصار والقبض في يوم واحد علي ثلاثة من الد اعداء ايطاليا الفاشستية, وصدر الحكم ضدهم بالاعدام, ثم حصل عفو عام تم بسببه تخفيض الحكم الي الاقامة الجبرية المستديمة في بيت صغير بقرية مزده, بعد مصادرة املاك العائلة كاملة ومصادرة املاك زاوية السني في مزده التي كان اشياخ العائلة يتناوبون رئاستها. كان البيت الذي تمت فيه الاقامة الجبرية للزعماء الثلاثة بيتا صغيرا ما زالت آثاره موجودة في قريتي ونسميه حوش عبداللطيف, ولم يستطع الرجل الذي ألف الطواف في فضاءات الحرية, في القارة الافريقية, يجابه المستعمرين فوق جواده, شاهرا بندقية الموزر في وجوههم,ان يطيق الحياة في اغلال الاسر داخل ذلك البيت وفي غرفة تشبه الزنزانة, خاصة انه كان قد بلغ الثمانين حولا من عمره فأصيب بكسر في ساقه ورفض ان يخضع لعلاج سجانيه الايطاليين, ومات متأثرا بذلك الجرح, يوم13 سبتمبر عام1932, وبقي ذكره في قريته, وبين اهله في ليبيا, وبين تلاميذه في دول جنوب الصحراء داخل القارة السمراء, باعتباره مناضلا اسطوريا, وشيخا مباركا, ووليا من اولياء الله الصالحين, مات في قريته التي ولد فيها, بعد ان تغرب عنها ثلاثة وثلاثين عاما, قضاها يطوف مجاهل القارة الافريقية ويجوب شعابها وبيدها وأريافها يهدي الناس الي رسالة الحق, ويعلمهم القراءة والكتابة في ظروف مرعبة في قسوتها صورها في اشعاره الكثيرة التي يضيق هذا المجال عن ذكرها وقد اوردها الباحث الدكتور مسعود جبران في سفره الكبير الذي يسجل فيه بطولات هذا المناضل الاسطوري وينقل عددا من الملاحم الشعرية التي سطرها عن معارك الحرية التي خاضها, كما يذكر المدارس الكثيرة التي قام بإنشائها والمنارات التي اشرف علي تأسيسها والتي مازالت موجودة الي هذا اليوم تحمل اسمه وتواصل اداء المهمة التي كرس هذا الشيخ حياته لها بين ابناء القارة يريهم طريق الهداية ويخرجهم من ظلام الجهل الي نور العلم, قبل ان يترك رسالة العلم الي رسالة الكفاح يقاوم جيش الغزو الزاحف لاحتلال تلك الشعوب مستخدما احدث آلات القتل والدمار. وقد صار ضريحه مزارا في تلك القرية التي افخر بانه يجمعني معه الانتماء اليها, وقد جاء ميلادي بعد عشرة اعوام وثلاثة اشهر من يوم رحيله. وقد امتد العمر باحد ابنائه وهو المجاهد الاسطوري سيدي احمد السني, الي اواخر الخمسينيات من القرن الماضي, وكنت صغيرا أزوره في بيته, اقود شيخا ضريرا من اقاربي هو في ذات الوقت احد رفاقه وزملائه في مراحل الصبا, واجلس منصتا لحكايات ذلك المجاهد الكبير عن معارك المقاومة التي خاضها, وكان رجلا مهيبا جليلا له لحية بيضاء مرسلة, يتبرك الناس بزيارته, ويتناقلون كراماته, وعندما يلتقون به يقبلون فرحين عليه ويعمدون الي تقبيل يده, اجلالا واحتراما لماضي جهاده ومكانته السامقة في قلوبهم ومكانة والده وشقيقه المهدي, رضوان الله علي الجميع. [email protected]