الدكتور مصطفي الفقي قيمة مصرية وعربية كبيرة اكتسب قيمته من إسهامه الفكري والمجتمعي بقدر ما اكتسبها من المراكز المرموقة التي شغلها. ولهذا فمن الطبيعي أن يحدث كلامه الأخير عن العروبة كل هذه الضجة التي اهتمت بها وسائل الاعلام العربية, والتي لاحظت أن اهتمامها بما قاله فاق اهتمام وسائل الاعلام المصرية. وما ذكره الدكتور مصطفي الفقي وهو المنشغل بموضوع تجديد الفكر القومي جدير بإثارة الانتباه وفتح النقاش حول إحدي أهم قضايا وجودنا العربي. ومصر كانت دائما- شاءت أم أبت- في قلب هذا النقاش. ليس أصعب من أن ترتد أمة علي نفسها وتتشكك في وجودها وتفرط في أثمن وأبقي ما لديها وهي مقومات وحدتها. بوسعنا أن نفهم أن تسعي أمة إلي تصحيح مسيرتها وتحديث رؤيتها ومراجعة أخطائها لكن ما يصعب فهمه أن تصل دعوات المراجعة إلي أن تنقلب الأمة علي ذاتها. فما يقال أو يكتب اليوم عن العروبة في بلاد العرب أمر يستعصي علي الفهم, ناهيك عن أن ما يحدث بالفعل يبدو أكثر استعصاء. فقد أصبحت العروبة هي' الشماعة' التي نعلق عليها كل إخفاقنا وتقصيرنا طوال العقود الخمسة أو الستة الأخيرة, ونسينا أن نطرح التساؤل الأكثر بداهة: هل السبب فينا نحن أم في العروبة؟ أغلب الظن أن السبب كامن في الطريقة التي تعاملنا بها مع العروبة, وفي المحاولات الفاشلة التي حاولنا من خلالها توظيفها. والأمر في الواقع لا يقتصر علي العروبة وحدها. فهل كان العيب مثلا حين أخفقنا اقتصاديا في النظرية الاقتصادية ذاتها, أم فينا نحن الذين نمتلك من الثروات والإمكانات الكثير دون أن ننجز بقدر ما أنجز غيرنا؟ إن إجمالي الصادرات العربية سنويا في ظل التشرذم العربي والدولة القطرية التي ترفع شعار نحن أولا في أكثر من دولة عربية لم يتجاوز-باستبعاد صادرات النفط والغاز-200 مليار دولار امريكي( تقرير أوضاع العالم الفرنسي طبعة2010 وتقارير الأسكوا الأخيرة) بينما تبلغ صادرات دولة مثل بلجيكا وحدها430 مليار دولار أمريكي مع أن عدد سكان الدول العربية يصل لنحو330 مليون نسمة, بينما لا يتجاوز عدد سكان بلجيكا العشرة ملايين نسمة! السؤال الآن هو ما تفسير هذا الإخفاق الاقتصادي حين نقارن أنفسنا كعرب مع دولة صغيرة الحجم والعدد مثل بلجيكا ؟ من المؤكد أن العروبة ليست هي السبب لأننا ما زلنا نعيش عصر الدولة القطرية بامتياز حيث الحدود والجمارك والقيود المفروضة علي انتقال السلع ومرور الأفراد ناهيك عن شعار نحن أولا الذي يرفرف اليوم في أكثر من عاصمة عربية, يضاف إلي عصر التشرذم العربي تيارات الشوفينية ونزعات التنابذ. هذا هو حصادنا في عصر ازدهار الدولة القطرية, فلماذا وبأي منطق نتنكر للعروبة ونصب اللعنات عليها؟ ألا يدعونا هذا لأن نراجع منهجنا في الاستقراء والاستنتاج؟! لنأخذ مثالا ساطعا آخر علي أن العيب يكمن فينا نحن, وليس في العروبة. إن متوسط ما تخصصه الدول العربية جمعاء للبحث العلمي من إجمالي ناتجها المحلي وفقا لآخر الأرقام المتاحة( تقرير أوضاع العالم الفرنسي طبعة2010) لا يتجاوز ثلاثة أعشار في المائة, بينما وصل في اسرائيل إلي أربعة وتسعة أعشار في المائة. أي أن إسرائيل تنفق علي البحث العلمي بأكثر من خمسة عشر ضعف ما تنفقه الدول العربية. السؤال هنا مرة أخري هو هل كان هذا الإخفاق العربي سببه العروبة أم أنه إخفاق تحقق في ظل عصر الدولة القطرية وواقع التجزئة والتفتيت الذي يعيشه العرب؟ لماذا إذن في كل تفسير لإخفاقنا يتم الزج بالعروبة ؟ يمكننا أن نعدد الأمثلة لكن الفكرة واحدة ما نعيشه كعرب اليوم من إخفاق في مجالات شتي تبدأ من السياسة والاقتصاد لتشمل غير ذلك الكثير لم يكن سببه أبدا هو العروبة. فلنبحث إذا أردنا أو استطعنا عن الأسباب الحقيقية الأخري, وكلها أسباب إما تتعلق بواقع الدولة القطرية التي ترفع شعار نحن أولا, وإما نتحمل نحن المسئولية عنها كمجتمعات ونخب عربية. فليس سرا أن حالة الشوفينية العربية لا تقتصر علي الأفراد والعوام فقط في كرة القدم أو غيرها بل هي تشمل من أسف النخب العربية أحيانا. الأغرب من كل شيء أننا نعيش اليوم عصر التكتلات الاقتصادية والتجمعات السياسية حيث تسعي كل مجموعة دول تتقارب مصالحها أو تهددها نفس المخاطر إلي انشاء تكتلات وتجمعات فيما بينها إما لتوظيف هذه المصالح المشتركة وتعظيمها, وإما لدعم قدرتها علي مواجهة المخاطر التي تتعرض لها. فلماذا يكون التكتل مفهوما ومبررا ومتحضرا لغيرنا, بينما يبدو لدينا موصوما بالانغلاق والتعصب ؟ نحن نعرف أن أحد أسباب نجاح التكتلات ومشاريع الوحدة والتكامل لدي الآخرين أنه لم يكن مهما لديهم الشكل أو المسمي, بل كان الأكثر أهمية هو الفكرة أو المضمون. أما نحن فلربما كان جزءا من مشكلتنا أن معظم تجاربنا الوحدوية والتكاملية انطلقت دائما من سقف شديد العلو وطموح بلغ حد الجموح فأخذنا ننشد الوحدة في صورتها المثالية الكاملة فكانت النتيجة أن ارتطمت كل هذه المحاولات علي أرض واقع عربي لم يكن قد تم تهيئته بعد.. ومرة أخري كان العيب هنا فينا وفي طريقة تفكيرنا ومنهج عملنا وليس في العروبة كفكرة أو مشروع. ربما يكون موسم الهجوم علي العروبة الذي نعيشه اليوم نتيجة لحالة اليأس والإحباط التي تسيطر علي الكثيرين, أو صدي لنزعات الشوفينية والتهجم علي مصر, أو لبعض الأحداث الفردية التي تعرض لها مصريون في بعض الدول العربية في الآونة الأخيرة. لكن ليس منطقيا أن ينكر الناس حقائق وجودها أو يتنكروا لانتماءاتها لمجرد حادث فردي هنا أو هناك مهما بدا بشعا أو مروعا. المشكلة أننا نعطي للأحداث الفردية أحيانا مدلولات أكثر مما تستحق وأبعد مما تحتمل, لا سيما في ظل حالة التوجس المتبادلة التي تعيشها الأقطار العربية. أما عن حالة اليأس والقنوط التي تعشش في أركان البيت العربي فهذه حقيقة واقعة الحديث عنها يطول. ربما كان الجديد والمقلق في هذه الحال أنها امتدت إلي المثقفين العرب أنفسهم. بل إن هناك من كبار المثقفين العرب من أصابهم' اليأس القومي' وهم يرون حال الأمة يزداد تراجعا وتدهورا.. أكثر ما يقلق وأخطر ما يثير الانتباه أن التدهور العربي لم يعد يقتصر اليوم علي الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو التكنولوجية.. التدهور أصاب تطلعاتنا ذاتها.. وهي الحد النظري الأدني الذي كنا نملكه.. ليس الواقع إذن هو الذي تراجع فقط.. إنها الأحلام أيضا.. أي زمن عربي يثير الإشفاق!! [email protected] المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم