بالطبع ست الستات التي أقصدها هي أم كلثوم كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي واكاديمية الجمال ومروجة الصهللة العربية من المحيط إلي الخليج. لقد تربي جيلي وتغذي علي صوت الكروان المقرئ الشيخ محمد رفعت. وصوت ثومة التي كانت تضخ دماء الاحساس في عروقنا وعلمتنا السهر والسهاد والشوق والهجر والفراق والعتاب واللهفة واللقاء. ويوم جرؤ القلب علي القفز فوق الحواجز, كان السقوط وواساني صوت الست وغنت بلسان حالي( هجرتك) ويوم ذبحني الحنين, كانت تشدو( صعبان علي جفاك) وفي لحظة كدت اصرخ وماتت الصرخة بشهقة علي شفتي لكن الست صرخت بنعومة بالنيابة عني وغنت( ياظالمني). وحين عرف قلبي فرحة اللقاء عبرت الست بفصاحة ابلغ من لسان حالي وشدت( صعبان علي اقولك كان والحب زي ماكان واكتر). انفطم قلبي وكل القلوب في جيلي علي( الكلثوميات). ياما تمايلت العقول والرءوس يوم تغني الست, ايام كانت آداب الاستماع تحكمنا والشعر اجمل فنون القول يشجينا, ولآلئ المعاني تبهجنا. ايام كان الغناء غناء يخرج من مرقده في القلب ويصل الي اسماعنا مرورا بحنجرة المغني. وقد علمتنا أم كلثوم ان( المغني حياة الروح). هي تعبير عن حالة الرومانسية التي بدونها يختل توازن الانسان, كانت أم كلثوم تؤرخ لعصر من الفن بلغ قمته مع عمالقة آخرين اعطوا زماننا عطرا لا يذهب بل ان غيابها يكثف حضورها. حين دوختني التجارب, رشقت في قلبي المثخن بالجراح قصائد أم كلثوم, واعتصرني شدوها مع رباعيات الخيام وسلوا كئوس الطلا والاطلال وذكريات عشقت غناء ثومة بالفصحي وهي تسقي الحروف احساسا قلما يتوافر لصوت بشري. وربما اقول ان ام كلثوم روجت للفصحي اكثر مما روج المجمع اللغوي. وداخل وجداني تتعانق الجندول مع الاطلال مع موعود مع رسالة من امراة حاقدة مع أنا اللي استاهل كل اللي يجرالي.! يوم كنا نعيش ثقافة الحزب الواحد والصوت الواحد في الزمن الشمولي, ما كان ممكنا أن يشذ أحد عن سير القطيع. وربما اغفز المواقف السياسية الواحدة لأنها كانت دين الدولة السياسي. يوم اقترح فكري اباظة التحاور مع اسرائيل, فصلته السلطة. ويوم تجرأ وزير التربية والتعليم علي الإفصاح عن رأيه في حضور عبدالناصر, خرج الوزير من السلطة وعاد الي بيته في تاكسي. ويوم وصف موسي صبري صوت مذيعة النشرة الاخبارية بصوت المعزة, فصلته السلطة. كان المناخ العام والكلام لفرسان الفيس بوك يحرض علي اعتقال آرائنا داخل صدورنا. وانا واحد ممن افرجوا عن آرائهم مرتين. مرة حين وصفت نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة آنذاك إنه( انخدع) في زيارة رسمية. وكان جزائي الفصل13 شهرا. والمرة الثانية حين اعلنت اني احب ام كلثوم القصائد أكثر من الطقاطيق العاطفية واعلنت ميلي وحبي لصوت فيروز, فكان نصيبي من( الغضب الكلثومي) وقف برنامج تليفزيوني وليد بحجة انه استنفد اغراضه! اعترف الآن بتهوري وعدم الإلمام بمفردات ذلك الزمن الذي حجب الرأي حتي في الذوق وأهدانا( النكسة). ما كان ينبغي أن أجهر بذوقي علي الملأ, خصوصا أن الصحافة لديها الشهية للخبر المثير, وعندها القدرة علي التبديل والتحريف وصناعة الإثارة, إذ صار تفضيلي لأم كلثوم( القصائد) شتيمة لكوكب الشرق(!!) وصار ميلي لقيثارة السماء فيروز إهانة لكوكب الشرق(!!) وصار رأي كاتب بحجم يوسف إدريس في برنامج إذاعي لي عن أم كلثوم وحرية تدخينه, صفعة موجهة لها تستوجب وقف أغانيها في إذاعة الشرق الأوسط بناء علي أمرها(!!) نعم.. كان الغضب الكلثومي جبارا, حتي إن الراحل علي خشبة وكيل وزارة الإعلام وقتئذ استدعاني لمكتبه وقال لي: إن أم كلثوم واحدة من ثوابت العصر, ونصحني بأن أعقل, فلما قلت له ساخرا: لا ديكتاتورية في الذوق, نهرني بقوله: احتفظ بذوقك لنفسك. الآن, في زمن النت, والفيس بوك, والمدونات, أعلن رأيي بهدوء: أولا: لا تزال أغاني أم كلثوم العاطفية توقظ مواجعي, وتثقب ذاكرتي المغلقة. ثانيا: لاتزال قصائد أم كلثوم تشعل الحنين إلي القيم المجردة بعطرها النفاذ. ثالثا: لاتزال أم كلثوم حدثا كونيا قد يتكرر وقد يتفرد للأبد. رابعا: لاتزال فيروز تسكنني مثل كل المتذوقين المتحضرين بلا حزب يضمنا. ودعوني أتمرغ في حقول الكلمات المغناة, وأشم أريجها. دعوني أهذي: جددت حبك ليه.. ياللي كان يشجيك أنيني.. فما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر.. أكاد أشك.. لكني شقيت بحسن ظني.. حبيتك بالصيف بالشتا بكل الفصول!