خامسا: مدي مشروعية مطالب مصر تمسكت مصر خلال مراحل التفاوض بضرورة تضمين الاتفاق:(1) نصا يحافظ علي حقوقها بموجب الاتفاقيات الدولية السارية. (2) ونصا يفيد قيام دول المنابع بأخطار مصر مسبقا بأي مشروع ترغب أي من هذه الدول تشييده علي نهر النيل... فهل كان ما طالبت به مصر جائزا ومشروعا أم يعد تجاوزا لما استقرت عليه الممارسات الدولية وقواعد القانون الدولي؟ (1) وضع الاتفاقيات الدولية السارية التي أبرمتها مصر مع دول المنابع: أبرمت مصر منذ القرن التاسع عشر, عددا من الاتفاقيات الدولية مع دول المنابع, منها علي سبيل المثال لا الحصر: - بروتوكول15 أبريل عام1891 المبرم بين بريطانيا وإيطاليا: تضمن هذا البروتوكول نصا يفيد تعهد الحكومة الايطالية بعدم إعاقة أية أشغال علي نهر عطبره لأغراض الري, يمكن أن تسبب تعديلا محسوسا علي تدفق مياهه إلي نهر النيل. - المعاهدة المبرمة بين بريطانيا وإثيوبيا لعام1902: تعهد إمبراطور إثيوبيا' ميليك الثاني' طبقا لهذه المعاهدة بعدم إقامة أو السماح بإقامة أيه أشغال علي النيل الأزرق وبحيرة تانا ونهر السوباط يمكن أن توقف تدفق مياهها إلي نهر النيل. - اتفاق9 مايو عام1906 بين بريطانيا والكونجو المستقلة: ينص هذا الاتفاق علي تعهد الكونجو بعدم إقامة أو السماح بإقامة أية أشغال علي نهر سيميليكي أو اسانجو أو بجوا يمكن أن يخفض كمية المياه المتدفقة في بحيرة ألبرت. - اتفاق عام1929: بموجب هذا الاتفاق وافقت بريطانيا علي عدم إقامة أي أعمال ري أو توليد طاقة دون اتفاق مسبق مع مصر, كما لا تتخذ أية إجراءات علي النيل وفروعه أو علي البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية يمكن ان تنتقص من مقدار المياه التي تصل إلي مصر أو تعدل تاريخ وصوله أو تخفض منسوهة علي نحو يضر بمصالح مصر. كما نص البند الرابع من الخطاب الموجه من المندوب السامي البريطاني إلي محمد باشا محمود_ رئيس مجلس الوزراء المصري_ بتاريخ7 مايو1929 علي ما يلي:' وفي الختام أذكر دولتكم أن حكومة جلالة الملك سبق لها الاعتراف بحق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل... كما أؤكد أن هذا المبدأ وتفصيلات الاتفاق ستنفذ في كل وقت أيا ما كانت الظروف التي قد تطرأ فيما بعد'. - الاتفاق الموقع بين بريطانيا وبلجيكا عام1934: ينص هذا الاتفاق علي تعهد كل من بريطانيا وبلجيكا, إذا ما قامت بتحويل أية كميات من مياه جزء من النهر يقع كله في حدود تنجانيقا أو رواندا_ بوروندي, بأن تعيد هذه الكمية دون أي نقصان محسوس إلي مجري النهر عند نقطة معينة قبل أن يدخل النهر حدود الدولة الأخري أو قبل أن يشكل الحدود المشتركة بين إقليمي الدولتين. - المذكرات المتبادلة بين بريطانيا ومصر بخصوص إنشاء محطة توليد الكهرباء من مساقط أوين بأوغندا في الفترة من1949_1953: تنص هذه المذكرات علي احترام أوغندا للاقتسام السابق أو الاستخدامات السابقة وأن تشغيل المحطة لن يخفض كمية المياه التي تصل إلي مصر أو يعدل تاريخ وصولها أو يخفض منسوبها علي نحو يضر بمصالح مصر. كما نصت هذه المذكرات علي عدم المساس بمصالح مصر المقررة طبقا لاتفاق1929 وعدم تأثير أية أعمال تقوم بها محطة كهرباء أوغندا علي تدفق المياه المارة عبر الخزان وفقا للترتيبات المتفق عليها بين الدولتين. - اتفاقية عام1959 بين مصر والسودان: وتقرر هذه الاتفاقية مبدأ الاستخدام العادل والمعقول, وأكدت احترام الدولتين للاقتسام والاستخدامات السابقة. - الخطابات المتبادلة بين مصر وأوغندا عام1991: والتي أشارت إلي المذكرات المتبادلة بين بريطانيا ومصر بخصوص إنشاء محطة توليد الكهرباء من مساقط أوين بأوغندا1949_1953( علي سبيل الخصوص خطاب عام1953) بما يفيد اعتراف أوغندا بالتزاماتها الواردة بهذه الخطابات, وبالتالي لا يجوز لها التشكيك في مدي إلزامية هذه الخطابات باعتبار أنها وقعت خلال عهد الاستعمار, حيث أن أوغندا عام1991( باعتبارها دولة مستقلة وذات سيادة) قد أكدت واعترفت صراحة بسريان التزاماتها الواردة بالخطابات المتبادلة بين1949_.1953 - الإطار العام للتعاون بين مصر وإثيوبيا لعام1993: ويؤكد هذا الاتفاق التعاوني علي امتناع الطرفين عن القيام بأي نشاط يتعلق بمياه النيل يمكن أن يضر علي نحو محسوس بمصالح الطرف الآخر, بما يعني ان هذا الاتفاق يؤكد بوضوح وبما لا يدع مجالا للشك حماية الاستخدامات السابقة لكل مصر وإثيوبيا. كما أكد هذا الاتفاق ضرورة حماية مياه النيل والحفاظ عليها والتعاون والتشاور بخصوص المشروعات المشتركة وبما يساعد علي تعزيز مستوي تدفق المياه وتقليل الفاقد منها. تمسكت مصر خلال جميع مراحل التفاوض علي الاتفاق بضرورة عدم مساس هذا الاتفاق الجديد بالاتفاقيات السارية. وقد أدعت بعض دول المنابع بعدم سريان هذه الاتفاقيات وأنه لا يجوز لمصر التمسك بها في مواجهتها أو المطالبة بتضمين الاتفاق نصا يضمن عدم مساسه بالحقوق التي قررتها هذه الاتفاقيات لمصر. وادعت بعض هذه الدول_ دون سند واضح_ عدم تمتع مصر بأية حقوق علي حوض النيل أو مياهه. كما ذهب البعض إلي القول بأن بعض هذه الاتفاقيات أبرمت أبان فترات احتلالها وعليه لا تكون سارية في حقها منذ تاريخ استقلالها. وجميع هذه الادعاءات مردود عليها ويجب التفرقة هنا بين وضعين: الأول: الاتفاقيات التي أبرمتها مصر مع دول المنابع ولم تكن الأخيرة راضخة للاستعمار أو تحت الاحتلال, فلا تجد هذه الادعاءات أي سند قانوني لها ولا مجال للتشكيك فيها حيث تعتبر جميعا سارية ونافذة ومنتجة لآثارها القانونية دون انتقاص. الثاني: بالنسبة لبعض الاتفاقيات التي أبرمت خلال الفترات التي كانت فيها بعض دول المنابع تحت سيطرة الاحتلال, فهي أيضا اتفاقيات ملزمة تأسيسا علي قواعد القانون الدولي. فالمستقر فقهاوقضاء هو عدم تأثر الاتفاقيات الخاصة بالحدود_ وهذا هو الحال بالنسبة لهذا النوع من الاتفاقيات_ بفكرة التوارث الدولي مما يعني استمرار نفاذ هذه الاتفاقيات في مواجهة أطرافها. وتأكد ذلك باتفاقية فيينا بشأن التوارث الدولي وقرارات منظمة الوحدة الأفريقية التي تبنتها منذ1963, حيث أكدت جميعها علي عدم جواز الاستناد إلي فكرة التوارث الدولي للتنصل من الالتزامات التي ترتبها هذه الاتفاقيات( معاهدات الحدود) باعتبارها تتصل باستقرار العلاقات الدولية واستمرارها, حيث يمكن أن يؤدي المساس بها إيجاد حالة من التوتر بين الدول وتهديد صريح للسلم والأمن الدوليين الذي يسعي المجتمع الدولي إلي التأكيد عليه والحرص علي المساس به ولاسيما بالنسبة لوضع الحدود في القارة الإفريقية. وعليه لم يكن من المقبول أن تتنازل مصر عن حقوقها المقررة بموجب هذه الاتفاقات بمناسبة إبرام الاتفاق الجديد, بل كان يجب ان يتضمن نصا واضحاا للمحافظة عليها. لذا فقد حرص المفاوض المصري علي ذلك ووجد في المادة الثالثة من اتفاقية الأممالمتحدة الخاصة باستخدام المجاري المائية في غير أغراض الملاحة( وهي تعد اتفاقية نموذجية دولية تم تبنيها عام1997 تحت مظلة الأممالمتحدة) خير سند لذلك حيث نصت علي:' لا شيء في هذه الاتفاقية يمس حقوق أو التزامات دولة المجري المائي الناشئة عن اتفاقات في النفاذ بالنسبة لها في التاريخ الذي أصبح طرفا في هذه الاتفاقية.' (2) مبدأ الإخطار المسبق تمسكت مصر أيضا بضرورة تضمين الاتفاق نصا يؤكد ضرورة قيام أية دولة من دول حوض النيل بإخطار باقي الدول حال رغبة الأولي في إقامة أي مشروع علي نهر النيل, وهو ما يعرف بمبدأ' التشاور والإخطار المسبق'. واستندت مصر في ذلك علي ما قررته قواعد استوكهولم1966 وقواعد برلين2004( تم تبنيها بواسطة رابطة القانون الدولي), وقواعد البنك الدولي واجبة الاتباع عند إجراء الدراسات أو تمويل المشروعات التي تقام علي الأنهار الدولية, وأخيرا اتفاقية الأممالمتحدة(1997) التي تضمنت عددا من النصوص التفصيلية لهذا المبدأ. وحديثا جاء حكم محكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ20 أبريل2010 في شأن تسوية النزاع بين الأرجنتين وأورجواي حول' نهر أورجواي' ليؤكد استقرار مبدأ الأخطار المسبق, وأكدت المحكمة ضرورة احترام هذا المبدأ من جانب جميع الدول التي تشترك في نهر دولي واحد. سادسا: الأثر القانوني للتوقيع علي الاتفاق من دول المنابع وحدها دون دول المصب الثابت بموجب قواعد القانون الدولي أن المعاهدة الدولية لا تعتبر ملزمة ونافذة إلا في مواجهة أطرافه, وهم وحدهم يتحملون ما يترتب عليها من التزامات, وهو ما يعبر عنه بمبدأ' نسبية المعاهدات'. ويعني هذا المبدأ ان آثار العمل القانوني تنحصر في الأشخاص الذين قاموا بإبرامه. وتعتبر أي دولة من غير هذه الدول طرفا ثالثا( من الغير) متي لم توقع أو تصدق علي المعاهدة حتي ولو كانت قد اشتركت في الأعمال التفاوضية الخاصة بهذه المعاهدة. وقد سبق القضاء الدولي أن أكد عدم إمكان ترتيب التزامات علي عاتق دولة نتيجة لمعاهدة لم تكن طرفا فيها. وبناء علي ما تقدم يمكن أن نخلص الي عدم جواز قيام دول المنابع بأن تتمسك أو تحتج بأحكام الاتفاق الذي قامت بالتوقيع عليه منفردة علي مصر. كما يجب ألا يؤثر هذا الاتفاق علي التزاماتها الدولية المترتبة بموجب الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها هذه الدول مع مصر باعتبارها اتفاقيات دولية مازالت سارية ونافذة ويجب العمل بموجبها. كما لا يمكن الادعاء بأن الاتفاق يؤثر علي اتفاقية1959 بين مصر والسودان حيث تبقي هذه الاتفاقية نافذة ومطبقة بين أطرافها. علاوة علي ذلك لا يجوز لدول المنابع الادعاء بتحللها من تطبيق القواعد الدولية الخاصة بالأخطار المسبق بالنسبة لأي مشروعات تنوي إقامتها ويجب إخطار مصر بها والتشاور معها بشأنه. ولا يجد هذا الالتزام سنده في الاتفاقيات المبرمة بين مصر ودول المنابع فحسب بل تؤيده قواعد القانون الدولي المستقرة. سابعا: مستقبل مبادرة حوض النيل تعتبر المبادرة صورة من صور التعاون الدولي بين دول حوض النيل, وقد أثبتت نجاحها في دراسة عدد من المشروعات وجذب الأموال من المؤسسات الدولية والجهات المانحة لتنفيذ العديد من المشروعات. وعليه جاء الجزء الثالث من الاتفاق ليقرر تحويل مبادرة حوض النيل إلي مفوضية بعد دخوله حيز النفاذ.( والذي كان يجب أن يتحقق بعد تبني الاتفاق دون معارضة أي دولة من الدول الأطراف). وتجدر الإشارة في هذا المقام إلي ان مبادرة حوض النيل هي كيان مؤسسي يشترك فيه جميع دول حوض النيل التسع ويشترك في ملكية جميع أصولها وأموالها وحقوقها. ويثار التساؤل عن مستقبل المبادرة في حالة بعض الدول بالتوقيع علي الاتفاق دون البعض الآخر. ونري أن هذا الوضع سوف يوجد إشكالية قانونية حيث يتعذر قانونا تحويل المبادرة إلي مفوضية طالما لم توافق علي ذلك جميع الأعضاء بالمبادرة. ولا شك أن هذا الوضع سوف يؤثر سلبا علي مستقبل المبادرة وسوف يكون سببا مباشرا لانهيارها ووضع نهاية سريعة لمسيرتها بعد النجاح الذي حققته منذ نشأتها والذي كان يمكن البناء عليه مستقبلا لتحقيق أفضل النتائج لصالح شعوب دول حوض النيل.