علي مدي الأشهر القليلة الماضية ظلت طبول الحرب تقرع وبعنف, لدرجة أن الكثيرين توقفوا عن طرح سؤال: هل تقع الحرب أم لا في إقليم الشرق الأوسط, وأخذوا يركزون علي البحث عن إجابة سؤال آخر هو: متي تقع الحرب؟ لكن' السؤال اللغز' الذي لم يستطع أحد أن يجيب عنه هو: أين ستبدأ الحرب: هل ستبدأ مباشرة بين إسرائيل وإيران لوضع نهاية تحلم بها إسرائيل للمشروع النووي الإيراني, أم ستبدأ في لبنان بين إسرائيل وحزب الله كخطوة أولي تمتد بعدها إلي سوريا, وربما تمتد إلي إيران أو لا تمتد لتحقيق ما يسميه الإسرائيليون ب' قطع أرجل حلفاء إيران', أم إنها قد تقتصر علي حرب أخري يشنها الإسرائيليون علي قطاع غزة في خطة قد تكون' تأديبية' لحركة' حماس', أو قد تكون' حربا تأهيلية' لمسرح جديد تماما للأحداث. سيطرة هواجس الحرب أكدتها حالة الاشتباك غير المسبوقة بين كافة الأطراف في المنطقة, اشتباك داخل الحكومة الإسرائيلية بين معتدلين ومتطرفين جعلت رئيسها عاجزا عن اتخاذ قرار وجعلت التشدد والتهديد بالحرب هو أقرب, أو ربما أفضل الخيارات, للحفاظ علي تماسك الحكومة والحيلولة دون انهيارها. هذا الاشتباك فرض نفسه علي الساحة الفلسطينية بين السلطة ورئيسها محمود عباس من ناحية وحركة حماس ومعظم فصائل المقاومة الإسلامية واليسارية من ناحية أخري, لدرجة شلت أداء السلطة الفلسطينية وجعلتها تلجأ أحيانا إلي ما يمكن وصفه ب' خيارات هروبية' إعلامية أكثر منها سياسية مثل طرح خيار إعلان قيام الدولة الفلسطينية من طرف واحد, وهو الخيار الذي ظل محصورا في الإعلام دون السياسة كورقة مساومة مع إسرائيل وورقة إحراج لحركة حماس. لكن الاشتباك الأقوي كان بين إسرائيل والولايات المتحدة ودول غربية أخري خاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبين إيران حول البرنامج النووي الإيراني. جديد هذا الاشتباك الذي دفع بالأزمة إلي حافة الخطر هو عودة الإدارة الأمريكية إلي تجديد الثقة في الخيار العسكري كأحد الخيارات الممكنة لحل أزمة البرنامج النووي الإيراني, الأمر الذي اعتبر انتصارا للضغوط الإسرائيلية التي ظلت تضغط وتشكك في جدوي خيار العقوبات ضد إيران, والتي ظلت تعطي الأولوية لملف إيران علي حساب الملف الفلسطيني في حواراتها مع الإدارة الأمريكية. لكن التطور المهم الذي يكاد يكون قد أحدث تحولا جذريا في مجري الصراع بين الحرب والسلام في المنطقة هو ذلك المزج أو الربط بين الأزمات, الصراع العربي الإسرائيلي, وتجدد فرص الحرب, وأزمة البرنامج النووي الإيراني. هذا المزج والترابط جري تقويته بسبب ما أشيع عن نجاح سوريا في نقل أعداد كبيرة من صواريخ سكود وصواريخ أم600 إلي حزب الله, مما أعطي للمتشددين في الحكومة الإسرائيلية فرصة لتصعيد خيار الحرب ضد سوريا وحزب الله, وما أعطي للمتشددين في الإدارة الأمريكية فرصة للهروب من التزامات دعم شروط وقف الاستيطان لبدء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. أصبح خيار الحرب مصلحة لأطراف كثيرة, وربما يكون خيار التهديد بالحرب وليس الوصول إلي مرحلة شن الحرب قد تحول إلي مخرج لتلك الأطراف: تحول إلي مخرج للحكومة الأمريكية لإقناع كل من روسيا والصين بدعم خيار فرض عقوبات مشددة ضد إيران, وتحول إلي مصلحة للحكومة الإيرانية لاستعادة التماسك الوطني الداخلي, وتحويل التهديد الخارجي إلي دافع للتوحد الداخلي, والتخلص من رموز التيار الإصلاحي المشاكس, وإنهاء الأزمة السياسية الداخلية التي كادت تهدد استقرار النظام, كما تحول التهديد بالحرب إلي مصلحة لرئيس الحكومة الإسرائيلية للتغلب علي المتشددين داخل حكومته والمزايدة عليهم. هذه الحال التي كادت تحول الحرب من أسطورة إلي واقع علي مدي الأشهر القليلة الماضية والتي وصلت ذروتها في الأسابيع الأخيرة يبدو أنها حفزت أطرافا أخري كي تعمل في الاتجاه المضاد إن لم يكن من أجل تحقيق السلام فمن أجل نزع فتيل الحرب علي أقصي تقدير وفقا لما حدث من تطورات جديدة مهمة. ما حدث من قبول عربي لضغوط أمريكية بعودة المفاوضات غير المباشرة الفلسطينية الإسرائيلية بوساطة أمريكية دون تعهد إسرائيل بوقف سياسة التوسع الاستيطاني, وما حدث من وساطات تركية وبرازيلية للتوسط بين إيران و'مجموعة5+1' دول مجلس الأمن دائمة العضوية في مجلس الأمن+ ألمانيا وتقديمها لمقترحات جديدة بخصوص حل المشاكل المثارة بين الطرفين كان بداية لهذا المسار لنزع فتيل الانفجار من أبرز هذه التطورات, كان التطور الأهم هو انعقاد تلك القمة الثلاثية التركية السورية القطرية هذه القمة لم تأت من فراغ, فهي بدأت بزيارة قام بها أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي لطهران, وعرض الوساطة التركية في أزمة الملف النووي, وأكد رفض بلاده للعقوبات ضد إيران, واتبعتها زيارة الشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء القطري لدمشق وبيروت ولقائه بالرئيس الأسد والسيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله, زيارات كانت تهدف إلي نزع فتيل الحرب, ولذلك لم يكن مستغربا أن تشهد القمة الثلاثية وعلي لسان الرئيس السوري تجديد دعوة استئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية, وبوساطة تركية, ولم يكن مستغربا أيضا أن يؤكد الرئيس التركي عبد الله جول في لقائه بالرئيس الأسد اهتمام بلاده بمباحثات السلام وخصوصا بين سوريا وإسرائيل وبين لبنان وفلسطين وإسرائيل. ولم تكد تنته القمة الثلاثية في اسطنبول لتبدأ قمة ثنائية سورية روسية في دمشق لم تكن تركيا بعيدة عنها, وهي قمة أعقبت زيارة قام بها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز لموسكو, حيث ذكر أن بيريز طلب من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف نقل رسالة إسرائيلية للقيادة السورية مفادها أن' إسرائيل ليست معنية بتسخين الحدود الشمالية والحرب هي الشئ الأخير الذي نريده' هذه الرسالة تضمنت أيضا ما نصه:' نحن نمد يد السلام إلي سوريا, إلا أن السلام لا يمكن أن يتأسس من دون شروط أساسية. لا يمكن مد اليد للسلام ومواصلة دعم الأوكار الإرهابية', معتبرا أن' إسرائيل لا تملك تفسيرا آخر لنقل السلاح من سوريا إلي حزب الله, فنقل صواريخ دقيقة وطويلة المدي إلي يد منظمة حزب الله هو توتير حربي'. رسالة بيريز تلك تضمنت تأكيدات تقول' علي السوريين أن يعلموا أنهم لن يتمكنوا من الحصول علي الجولان إذا ما نصبوا علي جباله صواريخ من إنتاج إيران' و'علي سوريا أن تتوقف عن ان تكون تابعا لإيران'. تهديد في صورة نصيحة, لكنه تهديد لا يحمل أكثر من حروفه اللغوية في وقت فرضت فيه قناعات أخري نفسها علي العقل الاستراتيجي الإسرائيلي هي التي أملت علي بيريز أن يحمل الرئيس الروسي تلك الرسالة. أول هذه القناعات أن الضغط علي سوريا كي تفكك تحالفها مع إيران لن يجدي في ظل تفاقم الأزمات بين إسرائيل وسوريا وبين أمريكا وسوريا, وبين دول عربية وسوريا. هذه البيئة المفعمة بالتوتر والحصار لسوريا تدفعها للمزيد من التحالف مع إيران, وأن البديل هو جذب سوريا بإغراءات الشراكة والجوار لخلق الظروف المواتية للقيادة السورية كي تشعر بالطمأنينة والاكتفاء عن التحالف مع إيران, من منطلق وعي جديد يقول إن تفكيك التحالفات يبدأ بتفكيك الأزمات, ومن هنا بالتحديد يمكن فهم نشاطات القمة الثلاثية التي عقدت في اسطنبول والقمة الثنائية السورية الروسية التي عقدت في دمشق. ثاني هذه القناعات يقول إنه في ظل اليقين بأن حزب الله أصبح بما لديه من قدرات عسكرية صاروخية وبالذات الصواريخ السورية من طراز أم600 القادرة علي الوصول إلي أي مكان في' إسرائيل' وبدقة عالية, وقدرة تدميرية هائلة قادرة علي تدمير البنية التحتية ومحطات الكهرباء والمطارات وإرباك حركة سلاح الجو وتجنيد الاحتياط, وإرباك هيئة الأركان لم يعد ممكنا, حسب ما نقلت صحيفة معاريف7 مايو الحالي, الاستمرار في التصعيد باتجاه الحرب ضد حزب الله. التصور أو الحل البديل هو ما يدفع به الآن قادة الأجهزة الأمنية, ومن بينهم رئيس الموساد مائير داغان وهو إجراء مفاوضات فورية مع الرئيس السوري بهدف إخراج سوريا من' محور الشر' علي حد قوله. هذا الحل نابع من تقدير الاستخبارات الإسرائيلية أن' المحور الراديكالي هو الوحيد القائم في المنطقة, لأنه لا وجود لمحور الاعتدال, فالترابط بين سوريا وحزب الله وحماس يلقي الرعب علي الجوار كله, ونقل سوريا من هذا المحور الراديكالي هو خطوة ستحدث تغييرا لمصلحة محور الاعتدال'. مما يعني أن تفكيك المحور الراديكالي باجتذاب سوريا إلي التفاوض والشراكة هو الذي سيحقق هدف تفكيك الأزمات, ومنه يمكن محاصرة خيار الحرب, لكن يبدو أن محاصرة سيناريو الحرب لن' تفرض أو لن تحقق خيار السلام, فإذا كانت الحرب في طريقها إلي أن تتحول إلي أسطورة افتراضية في المنطقة بسبب عوامل كثيرة جديدة فإن السلام قد سبقها, وأصبح أسطورة هو الآخر, مما يعني أن المنطقة تعيش قدر اللا حرب واللا سلام لأمد قد يطول قبل أن يتحول السلام إلي مصلحة حقيقية لكل الأطراف أو معظمها أو تتحول الحرب إلي مصلحة بديلة لتلك الأطراف.