منذ سنوات طويلة ومصر تعيش حالة من العصيان المدني. مخالفات البناء والمرور والرشوة والتعليم والاعتداء علي المال العام وفوضي الشارع المصري وازدراء الأخلاق العامة وتجاوز التعليمات واللوائح الإدارية هي بعض مظاهر هذا العصيان. لعل أحد ابرز الأسباب وراء هذا العصيان هي أن القوانين واللوائح التي يفترض أنها وضعت لتنظيم الحياة المدنية يراها الناس كما لو أنها صدرت بليل. فلا هي محكمة ولا هي راعت مصالح العباد ثم إنها لاتستند إلي قوة تحميها في النهاية. وجاءت ثورة25 يناير وانتبه الجميع إلي أهمية أن تصدر القوانين في رابعة النهار لعل وعسي أن تفلح في تنظيم حياة المصريين وتنهي أو تخفف من حالة العصيان المدني المزمنة. لكن صدور القوانين في وضح النهار لم يتحقق ولم نستكمل بعد القوة القادرة علي حماية تلك التشريعات وإنفاذها. ولقد وجدنا الحل في مصطلح الحوار المجتمعي حتي تبدو عملية إعداد القوانين من حيث الشكل ديمقراطية. ولقد صدرت قوانين وسوف تصدر أخري وليس لها من الديمقراطية سوي شعار الحوار المجتمعي. فقد رفعنا هذا الشعار علي مدي الشهور الماضية في الحديث عن التعليم الأدني والأعلي والبحث العلمي والصحة والاقتصاد والدعم والثقافة والإعلام والسياحة والزراعة والصناعة والري والنقل وقائمة أخري طويلة من القضايا. ولو صح هذا الحوار المجتمعي لتوقف المصريون جميعا عن العمل وتفرغوا للحوار. هذا شعار يحتاج إلي شيء من الترشيد. المسئولون يفهمون الحوار المجتمعي علي أنه مجموعة منتقاة تدعي للحوار ثم تصدر القوانين والسياسات كما أرادها واضعوها. والجمهور العام يفهم الحوار المجتمعي علي أنه مشاركة جميع فئات المجتمع في حوار يجبر واضعي القوانين والسياسات علي الانصياع لرغباتهم وهي مشاركة غير عملية وغير رشدة. الذي نحتاجه فيما يسمي الحوار المجتمعي فقط مجموعة ممن يمثلون مختلف الفئات التي لها مصالح مباشرة بالقوانين التي تصدر أو السياسات التي نرغب في تطويرها وهو ما يسمي التخطيط الاستراتيجي. علي أن يتم اختيار هذه المجموعة علي أسس صحيحة وواقعية تتنكر تماما للانتماءات السياسية أو الفكرية أو الطبقية أو الفئوية. في اختيار لجنة تكلف بصياغة قانون حرية وتداول المعلومات الذي تأخرنا فيه طويلا صدر قرار السيد وزير العدل بتشكيل اللجنة علي نحو يثير عددا من الملاحظات. لعل أبرزها هو الحرص الشديد علي تمثيل المؤسسات الحكومية المعنية من النيابة العامة والمخابرات والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وثلاث وزارات أخري هي الثقافة والإعلام والاتصالات. ولكن القرار جاء خاليا تماما من ممثل وحيد للبحث العلمي في الجامعات ومؤسسات البحث مثل المركز القومي للبحوث أو أكاديمية البحث العلمي التي تعد أكبر المستفيدين من حرية تداول المعلومات. ومع ذلك فإن التمثيل المشرف للأجهزة الحكومية المعنية لم يقابله تمثيل نصف مشرف لمنظمات المجتمع المدني التي حملت لواء الصراع مع النظام السابق من أجل إصدار هذا القانون بل وتمكن بعضها من إعداد العديد من المشروعات المقترحة. بل إن الصحافة المصرية تكاد تكون غائبة تماما عن عضوية اللجنة الموقرة. صحيح أن القرار خول اللجنة سلطة الاستعانة بمن تراه من المختصين والخبراء, ولكن تجاهل الصحافة علي هذا النحو أمر لايمكن تداركه بحق اللجنة في الاستعانة ببعض الصحفيين. أماعلي مستوي الأفراد المختارين في اللجنة, فإن الملاحظة الرئيسية هي غلبة مقدمي برامج التلفزيون في القنوات الخاصة دون الحكومية علي هؤلاء الأفراد. فوجود ثمانية من نجوم التليفزيون يؤكد التخوف من أن يكون التليفزيون قد أصبح مصدرا رئيسيا لاختيار من يتقلد المناصب أو عضوية اللجان.هل لاتستحق مؤسسة الصحافة المصرية العامة والخاصة شيئا من التمثيل في ظل وجود ثمانية من ممثلي صناعة التليفزيون التي تعتمد فيما تقتات به يوميا من معلومات علي الصحافة وعلي الصحفيين. ولذلك كان من المنطقي أن تبدأ الانتقادات لقانون لم يصدر بعد. لست مع تلك الانتقادات وأشعر أن انتقاداتها في بعض الأحيان لاتنصب علي القانون ذاته أو ما جاء فيما نشر من مواده, وإنما يعتريني شيء من الشك في أن مبعث تلك الانتقادات هو إغفال أو تجاهل مؤسسات وأفراد كان وجودهم ضروريا ومفيدا للقانون ذاته وتحقيق الإجماع حوله فيما بعد. من مظاهر التمثيل غير الصحيح في السياسات ما دعا إليه المجلس الأعلي للثقافة لبلورة رؤية ثقافية تقترب من خطة استراتيجية للثقافة المصرية تعرض في مؤتمر عام ينعقد قريبا. ولكن اللجنة جاءت ممثلة للتيارات المدنية أو الليبرالية دون ممثل واحد لتيار الإسلام السياسي الذي ينبغي أن يعترف الجميع بقوته ووجوده بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه. تحدثت في هذا الشأن مع الصديق الدكتور صابر عرب وأبدي تفهما جيدا للأمر. فعلي كثرة استخدام مصطلح الحوار المجتمعي, فنحن بعيدون عن استخدام هذا الشعار استخداما رشيدا. فالحوار في مصر فئوي وليس مجتمعيا. الليبراليون يتحاورون مع بعضهم البعض والإسلاميون أغلقوا علي أنفسهم دائرة الحوار. وإذا ما استمر هذا الاتجاه فإن الحوار لن يؤدي إلا إلي مزيد من الشحن والشحن المضاد. فالليبراليون يتناسون في خطابهم أنهم في مجتمع مسلم لايستطيع أن يواجه الحياة دون دعم عقلي ونفسي من دينه. والإسلاميون تنكروا للواقع واغتربوا عنه ولايرون للمحدثين من المصريين حقا في الاجتهاد والتجديد فيما يستجد في حياتهم من مشكلات. غابت الروح الإسلامية عن خطاب الليبراليين وغاب الواقع ومعطيات العصر عن خطاب الإسلام السياسي. وفيما بين هؤلاء وهؤلاء ملايين من المصريين تتنمي لو أن الحوار بين الجميع استمر دون اعتصامات أوإضرابات او قطع الطرق وتعطيل قوي الإنتاج ومواجهة شبح الفقر الذي يستعد ليطوي المزيد من المصريين.