ما هو موقف المواطن المصري من حالة الجدل والمناقشات والمهاترات التي تسود المجتمع الآن؟ هل استطاعت النخب في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الوطن أن تتفاعل بحق مع المواطن العادي في الشارع؟ هل شهدت الفترة الأخيرة تحولات في دلالة بعض الألفاظ مثل النخب والمثقفون وقادة الرأي لتعكس دلالات سلبية وتصبح أشبه بالوصمة ؟! أسئلة تفرضها اليوم الصور الضبابية والمعاني الملتبسة التي تسود الشارع المصري, وعجز نسبة لا يستهان بها من جموع الشعب المصري عن القطع برأي محدد فيما تشهده الساحة المصرية من قضايا مصيرية. والحقيقة أن محاولة قراءة المشهد الحالي أو العثور علي إجابات للأسئلة السابقة من منظور سياسي بحت يعد نوعا من الاختزال المشين. فإهمال البعد الثقافي في هذا المشهد وإقصائه نهائيا عن كل ما يدور علي الأرض يلقي بالمجتمع ككل في دائرة مفرغة لن تؤدي بنا فقط للعجز عن الوصول لحل للمشكلة, بل أيضا لتكرر ظهورها في المستقبل وإن اختلفت التفاصيل والملابسات لنظل إلي ما لا نهاية في المربع صفر. ولا أظن أننا نأتي بجديد عندما نقول إن الثقافة عامل رئيسي في ضبط التفاعل الاجتماعي, وفي توجيه سلوكيات البشر في مختلف المجالات و تشكيل الواقع الاجتماعي, فهذا ما أكده علماء الاجتماع أكثر من مرة. فالثقافة في حقيقتها مجموعة من المعاني والرموز, تتبلور لتشكل منظومات القيم التي توجه سلوكيات البشر في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية, سواء كانت سوية أو منحرفة. بالتالي تلعب الثقافة دورا محوريا في بناء المجتمع. فالبشر يؤدون أدوارهم وينجزون سلوكياتهم وهم موجهون بقيم الثقافة. ومن ثم فإن قوة المنظومة الثقافية هي الضمان الحقيقي لضبط التفاعل الاجتماعي واستقرار المجتمع. ومن المعروف أنه علي مدي أكثر من نصف قرن شهد المجتمع المصري علي أرض الواقع تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تركت بصمة واضحة عليه. هذه التحولات المتناقضة أسفرت عن حالة من الهشاشة الثقافية تجلت في عدد من المظاهر من بينها غياب القيم الموجهة أو المنظمة لسلوكيات البشر, أو ضعف أدائها وفعاليتها, ومن ثم تراجع القواعد المنظمة للسلوك, وتسيد القيم الانتهازية, وظهور ثقافة عدم الانتماء والفساد والرشوة, واختلاط المعايير حتي بات من الصعب أحيانا التفرقة بين الحلال والحرام, والخطأ والصواب, اضافة لتبني مضامين قيميه متناقضة دون استيعاب حقيقي لمضامينها.هذه التحولات في البنية الثقافية التي صاحبها دبيب العطب في مؤسسات التنشئة الثقافية والخلل في مؤسساتها(الأسرة- التعليم-الإعلام-دور العبادة) وانفصامها عن المجتمع وتقوقعها علي ذاتها, لم تؤد فقط لحالة من الهشاشة الثقافية بل أيضا أكدت الانفصام بين الشارع و النخب أيا كانت اتجاهاتهم بل و الشعور بفقدان الثقة بهم. الأخطر من ذلك أن حالة الهشاشة الثقافية التي يعيشها المواطن المصري الآن لم تعد فقط تهدد الثوابت ومنظومة القيم المستقرة في خزانة وعيه منذ آلاف السنين أو قدرته أن يعيد إنتاجها من خلال تفاعل اجتماعي معاصر, بل أيضا أوشكت أن تشل تماما ملكة التفكير وإعمال العقل والنقد. والحقيقة أن تأمل حال المجتمع المصري الآن وحالة الهشاشة الثقافية التي يعيشها والقطيعة بين المثقفين والنخب و المواطن العادي والتي تنذر بفقدان الثقافة المصرية لتماسكها وقوتها التاريخية, تفرض علينا جميعا مراجعة آليات العمل الثقافي وكيفية الخروج به من أسر الجدل والمناقشات وراء الجدران المغلقة والتخلي عن العبارات الإنشائية المطولة غير المفهومة للوصول بالعمل الثقافي للمواطن العادي في أبعد قرية أو نجع علي الحدود..تفرض علينا أن نبدأ جديا في تقييم وضع المؤسسات الثقافية و احتياجات الجمهور من تلك المؤسسات والجمعيات الرسمية والأهلية عبر استبيانات حقيقية للجمهور المستهدف بالخدمة وبالتالي تحديد مناهج وخطوات عملية قابلة للتحقيق لتنفيذ التطوير المطلوب. وأخيرا, إذا كانت تجارب التاريخ تؤكد أن انهيار وتآكل ثقافة أي مجتمع يمكن أن يحدث في فترة زمنية وجيزة, فإن صفحات التاريخ تؤكد أيضا أن استعادة سلامة المجتمع وفاعلية ثقافته وإن كان يحتاج إلي زمان أطول إلا أنه غير مستحيل بشرط صدق النوايا والجهود الجادة المخلصة.