في عدد من مشاهد الدراما الإذاعية الكوميدية مسعود البرعي شعبان لكاتبنا الكبير عبد الرحمن فهمي تتفجر الكوميديا من خلال الحوار الهزلي بين الحلاق الفهلوي( محمد رضا) وصبيه( سعيد صالح) وصديقهما المشترك فراش إحدي الشركات(شفيق نور الدين). عندما يبدأ أحدهما في وصم الآخر بالانتهازية و الرجعية بمجرد نشوب أي خلاف عابر حول اقتسام البقشيش أو تسليم المظروف الذي نسيه أحد زبائن الحلاق. وفي قصة فوزية البرجوازية لكاتبنا الكبير أحمد رجب تبدأ الأحداث بشجار سيدتين بسبب نقطه ماء سقطت سهوا من غسيل إحداهما.. ومع غياب لغة الحوار المشتركة والتحفز يبدأ حوار الطرشان بين السيدتين, الذي تنهيه السيدة المتعلمة وهي تغلق شرفتها في غضب بوصفها للسيدة الأخري بأنها برجوازية. وفي قالب كوميدي رائع يتتبع أحمد رجب دورة الكلمة وتحولات دلالاتها والتداعيات المصاحبة لذلك والأيدي الخفية التي تذكي نار الفتنة في الحي الذي لا يعرف الاختلاف أو التحيز إلا أثناء مباريات الأهلي والزمالك, ويصل الأمر في النهاية إلي انقسام سكان الحي الشعبي لمعسكر شيوعي وآخر رأسمالي, يخون كل منهما الآخر ويتهمه بالعمالة لجهات أجنبية لم يسمع عنها في حياته, وتنتهي القصة دون أن يدرك صاحب صالون البيت الأبيض أو بقال الكرملين حقيقة ما حدث وما سوف يحدث, بينما ينطلق الانتهازي الذي أذكي نار الفتنة سعيدا بغنيمته تاركا وراءه في الحي حربا لا يدري سكان الحي سببها وإن ظلوا يعانون نتائجها.. وفي ظني أن كلا العملين اللذين جمعا عددا من عمالقة الفن المصري و يعود تاريخهما لسنوات مضت قد مثلا شكلا كوميديا راقيا حيثتجاوزا حاجز الزمن, ليوصفا بدقة أحد أهم أسباب الخلل الثقافي و المجتمعي الذي لايزال في حياتنا حتي اللحظة. فقد وظف كل من عبد الرحمن فهمي وأحمد رجب فكرة المفارقة اللغوية والتلاعب بالألفاظ والشعارات واستخدامها علي مستوي الشارع, أحيانا النخب, في غير موضعها لخلق حالة شعورية معينة.. و لعل هذه المفارقة اللغوية تحديدا التي تقوم علي المزج بين كلمات لها دلالات متناقضة تماما للتدليل علي قضيه ليست مطروحة أصلا, تفسر لنا جانبا من الواقع الذي نعايشه الآن وحالة التشكك والبلبلة الثقافية والاجتماعية والنفسية علي مستوي الفرد. هذه البلبلة الفكرية أظن- أنها أحد أسباب تفشي عدد من الظواهر الخطيرة من قبيل ازدواجية الفكر والمعايير وتعميم الإحكام والوصول إلي نتائج تتناقض كلية مع المقدمات والاستدلالات المنطقية المسبقة و افتعال معارك يومية خائبة تستنزف الجهد والوقت, سرعان ما تتلاشي كفقاعة صابون دون أن تخلف وراءها أثرا أو تغييرا محسوسا. في هذا الإطار لا تختلف أو تتنوع آليات وأساليب المعارك بتغير الأماكن... فسواء وقع الاختلاف أمام موزع أنابيب البوتاجاز في إحدي العشوائيات أوفي قاعة مكيفة في مؤسسة كبري أو فندق خمسة نجوم أو أحد الاستوديوهات الفضائية, سرعان ما يتم خلط الأوراق وتحميل الكلمات والأفعال دلالات مبالغا فيها أو غير حقيقية, ليتحفز الجميع ولتبدأ معركة وهمية جديدة أبعد ما تكون عن أصل المشكلة أو السبب الحقيقي الذي وجد من اجله الجمع في ذلك المكان.. وهنا يقفز أمامنا سؤال: هل كان هناك علاقة بين ثقافة المجتمع و بين اللغة و فعل الكلام ؟! تشير الدراسات إلي أنه خلال الربع الأخير من القرن الماضي ظهرت4 اتجاهات لدراسة الثقافة, ركزت في مجموعها علي عوالم المعني و الرمزية و اللغة و الخطاب, و بالرغم من اختلافها من حيث الخلفية والأسلوب والمنهج إلا أنها أكدت بقوة علي اللغة والتعبير الرمزي.وقد أشار عالم الاجتماع يورجين هابرماس في دراساته حول التحليل الثقافي إلي أن أفعال الكلام تنقل رسائل ليس فقط عن البناء الشكلي للغة, ولكن أيضا عن أنماط الثقافة التي تنظم التفكير والتفاعل الاجتماعي. فاللغة, من منظوره, توفر المفاتيح الضرورية لتحليل الثقافة حيث إن الفرد يستخدمها ليرمز بها إلي أفكار المعاني التي تعكس ذاته. وبالتالي فمن خلال تحليل الخصائص العامة او الكلية المتصلة باللغة يستطيع الباحث أن يفهم بعض المعاني المرتبطة بمواقف معينة. وفي دراسته القيمة اللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم يقول د.كمال بشر نائب رئيس مجمع اللغة العربية( اللغة مرآة عاكسة لكل نواحي الحياة, وهي الإنسان نفسه فقد قيل إذا فتحت فاك عرفناك. من هنا لا عجب إذا كانت العربية الآن تشكو الضعف والتفكك. فاللغة العربية في عصرنا علي حد تعبير د. كمال, مضطربة اضطراب أهليها فكريا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لغياب الثوابت الفكرية والانسجام الثقافي والاجتماعي. ويتجلي التنافر في المنظومة الثقافية إن وجدت وفي سلوك الإنسان العربي وفي الازدواجية وفي حياته الخاصة والعامة وفي نظرته إلي الموروث والوقت والانضباط والحياة). و في ظني أن السطور السابقة تكشف بعضا من أسباب وأبعاد معطيات واقع سقيم لا يزال يدور بنا في فلك الأزمة ويفسر ما نشهده من معارك ونفخ في نيران لا يتولد عنها سوي المزيد من السحب السوداء التي تتكاثف لتحجب الرؤي بل تجبرنا علي غض الطرف عن جذور المشاكل التي نواجهها وتداعياتها. تتنافر سلوكياتنا وتتعارض مع أقوالنا وأفكارنا بداية من أساليب التعامل وطرق إعداد الطعام والملبس وصولا للتغريب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لتستمر عجله الاغتراب والخواء في الدوران إلي ما لا نهاية. ولأن الإصلاح والتغيير لا يمكن أن يتحققا إلا من خلال بناء ثقافي ومناخ عام ينبذ حالة الخوف والانسياق وراء أكثر الأشخاص قدرة علي التهييج والإثارة بعيدا عن المنطق والعقل, وصنع مناخ يؤمن بالتعددية الفكرية, ويعيد لحياتنا قيمة النظام والاتقان ولأن حق التفكير والإبداع والمحاولة والخطأ حقوق إنسانية تتخطي الحدود و ليست مجرد صناعه غربية, تظل الكلمة المحددة المعني أول الطريق فإما أن نتبناها, او فلنقنع بالبقاء في صالون الأوسطي مسعود البرعي شعبان أو حارة فوزية البرجوازية. [email protected]