ربما تختلف آراؤنا وتفسيراتنا حول الكثير من القضايا والمشكلات العربية المزمنة وعلى رأسها ظاهرة إخفاق العمل السياسى العربى سواء فى حده المثالى الذى طالما حلمنا به وهو الوحدة العربية أم فى حده الأدنى الممكن متمثلاً فى التكامل العربى. لكن الذى لا يمكن الاختلاف عليه أو التشكيك فيه هو أن الثقافة العربية تبدو اليوم الحقيقة الوحيدة التى تجمع العرب!! أجل.. الثقافة العربية اليوم هى المظهر الوحيد لوحدة العرب والضمانة الوحيدة حتى الآن على أنهم يمثلون كياناً حضارياً قابلاً للاستمرار. الثقافة العربية هى الدليل الوحيد الذى نمتلكه على أن عرب اليوم هم الامتداد الإنسانى لعرب الأمس. وبدون الثقافة العربية ليس لدينا مثل هذا الدليل فى ظل ما يتسم به الكيان السياسى العربى من ضعف وفرقة وتناقض. (1) يكاد المرء يتصور أحياناً أن الثقافة العربية تجمع العرب رغماً عن إرادتهم ونزعاتهم وأهوائهم! هذه الثقافة التى تتجلى فى الكثير من المظاهر المعيشية اليومية وليس فقط الفكرية أو السياسية. فاللغة العربية ما زالت رمز وجودنا ووسيلة تواصلنا وتحاورنا حتى بين الذين لا يؤمنون بالعروبة ذاتها! والعرب على الرغم من روح الشوفينية المتصاعدة فى أقطارهم هذه الأيام ما زالوا يستمعون إلى الأغانى ذاتها لأم كلثوم وفيروز وعبدالحليم وصباح فخرى. والسياسيون العرب المختلفون معظم الأوقات لا شك أنهم يتبادلون فى أوقات استراحتهم «النكت» العربية ذاتها، وهى بدورها مظهر ثقافى آخر يستمد دعابته ومرحه من وحدة الكوميديا السوداء التى تجمع بينهم. وحين يود العرب استعادة ذكريات شبابهم فلا شك أنهم لن يجدوا سوى الأفلام السينمائية (بالأبيض والأسود) لجيل الرواد من السينمائيين العرب وهى مظهر آخر من مظاهر التوحيد الثقافى العربى. وقد تختلف الألوان والتوجهات السياسية للمثقفين العرب من ليبرالى إلى اشتراكى ومن قومى إلى إسلامى لكنهم بيقين سوف يلتقون جميعاً على قراءة أعمال نجيب محفوظ ونزار قبانى ومحمود درويش وعابد الجابرى الذين لا يكتبون جميعهم إلا بالعربية ولا يتناولون إلا القضايا العربية. هل يصدق أحد أنه من واقع الرصد الالكترونى على شبكة الانترنت فإن الشاعر العربى الذى يجيء لدى المتصفحين العرب فى المرتبة الثانية بعد نزار قبانى هو المتنبى؟! هذا ما يسجله خبير المعلوماتية جمال غيطاس فى التقرير العربى للتنمية الثقافية. الواقع العربى يؤكد إذا من دون تنظير أو شعارات أن الثقافة العربية هى المظهر الوحيد الأكثر صدقاً وتلقائية فى التعبير عن وحدة العرب ككيان إنسانى. من السهل إذاً أن نجيب على السؤال الوارد فى عنوان هذا المقال هل توحّد الثقافة ما فرّقته السياسة؟. لكن السؤال الآن هو: وكيف توحّد الثقافة ما فرقته السياسة؟ لكى تصبح الثقافة عامل توحيد ومظهر تضامن للأمة فإننا نحتاج لرؤية تركّز على العمل الثقافى بأكثر مما نحتاج إلى اجترار الحديث حول الإشكاليات النظرية والفلسفية للثقافة. وبمعنى آخر فإننا نحتاج لأن نتجاوز دائرة الفكر الثقافى إلى دائرة العمل الثقافى. فالملاحظ أننا نراوح مكاننا منذ عقود فى الحديث عن قضايا وموضوعات تنتمى للفكر الثقافى وهذا بحد ذاته منهج مطلوب لكن آن الأوان لكى نتجاوزه وإلا فإن جدلنا يمكن أن يستمر لسنين حول القضايا ذاتها مثل تعريف الثقافة وأمور نظرية وفلسفية أخرى. لقد تجاوز المثقفون العرب مهمة التأسيس الفكرى لقيم التقدم الثقافى وعلى رأسها قيم الحرية والانفتاح والتفكير النقدى. وأصبح المطلوب اليوم هو الانتقال إلى دائرة الفعل الثقافى. هذا يعنى على وجه التحديد البحث عن الأدوات والوسائل وإطلاق المشاريع والبرامج الكفيلة بوضع قيم الفكر الثقافى على قضبان الحركة. (2) وكمثال على ما نحتاج اليه على صعيد العمل الثقافى العربى فإننا نتحدث منذ سنين حول حاجتنا الملحّة إلى قناة فضائية عربية لمخاطبة الرأى العام الغربى وتصحيح وعيه بشأن القضايا العربية فى ظل ما تعانيه الثقافة العربية والشخصية العربية من نظرة غربية مجحفة غير منصفة تميل إلى التعميم والإطلاق والأحادية فى كل ما يخص صفة «العربى». وقد حاولت جامعة الدول العربية منذ نحو خمس سنين إطلاق مثل هذه الفضائية العربية المنشودة ، وقيل إنه اتخذ قرار بشأنها فى أحد مؤتمرات القمة العربية، ورصد لها ميزانية يبدو أن الجامعة العربية لم تستطع تدبيرها حتى الآن. فلماذا لا يكون إطلاق فضائية عربية موجهة إلى الرأى العام الغربى نموذجاً لمشروع ثقافى عربى طال انتظاره؟ لعل المفارقة المثيرة للدهشة أن الفضاء العربى يزدحم بما يزيد على ستمائة فضائية عربية معظمها لا يروّج للأسف إلا لثقافة التسلية واللذة ولا يسهم إلا فى تسطيح وعى أطفالنا وشبابنا. وما زلنا عاجزين عن تقديم فضائية عربية جادة ذات رسالة نحن اليوم أحوّج ما نكون إليها. فجزء من ملهاة المشهد الإعلامى العربى ومأساته أنه يبدو اليوم موزعاً بين فضائيات أجنبية معنية بأجندة وأهداف تخصها وبين فضائيات عربية تعتبر الإعلام مشروعاً تجارياً هدفه تحقيق الربح لا أكثر حتى جاء الربح من خلال نشر القيم الاستهلاكية وثقافة اللذة. أما الفضائيات العربية الجادة والناجحة فإن عددها قليل كما نعرف وهى تخاطب بالأساس الجمهور العربى. ولو أن جامعة الدول العربية نجحت فى إطلاق فضائية عربية ناجحة موجهة للرأى العام الغربى لكان ذلك أفضل وأجدى مشروع ثقافى عربى. وفى إطار السعى لترجمة الفكر الثقافى إلى عمل ثقافى فإن هناك مشاريع ومبادرات ثقافية أخرى يمكن أن تتبناها القمة الثقافية العربية. ومن المؤكد أن حالة التراجع والتدهور التى تمر بها اللغة العربية فى الوقت الحاضر تتطلب التفكير فى مبادرة عربية ثقافية جادة ومدروسة تضع حداً لاغتراب اللغة العربية فى ديارها وهو اغتراب لا تعانيه لغة حية أخرى مثل اللغة العربية.. فما الذى يتبقى للعرب إذا فقدوا لغتهم؟! ربما يرى البعض أن لدينا فى العالم العربى ما يكفى من مجامع لغوية ومؤسسات أكاديمية وبحثية وتجمعات أهلية معنية جميعها بقضايا اللغة العربية وهمومها. لكن المطلوب اليوم هو مبادرة جماعية طويلة النفس ذات رؤية استراتيجية بعيدة. هناك كثيرون فى العالم العربى من ذوى الحس القومى المؤمنين بالمسؤولية الثقافية لرأس المال من هم مستعدون لتمويل مثل هذه المشروعات. المهم أن يروا مشروعاً جاداً ومقنعاً للنهوض باللغة العربية. وقد بدأت مؤسسة الفكر العربى أخيراً بالإعداد لمبادرة فى هذا الشأن بعنوان «عربى 21» هدفها تسليط الضوء على التحديات التى تواجه اللغة العربية، وطرح بعض الممارسات والتجارب لتطوير تعلم اللغة العربية سيما لدى الأطفال والنشء، وتدشين حملة إعلامية ذكية ومبتكرة تنطلق من لبنان تحث الناس على استخدام لغتهم الأم والحد من استشراء ظاهرة الحديث باللغات الأجنبية بين الشباب العربى فى بلدانهم. وتشرف الدكتورة منيرة الناهض الأمين العام المساعد لمؤسسة الفكر العربى على هذه المبادرة الجديدة يعاونها فريق من الخبراء. وستبدأ الحملة الإعلامية لهذه المبادرة قريباً بجملة ذكية ستكتب على أرصفة الشوارع وتوزع فى المقاهى وأماكن التجمعات الشبابية تقول «أخاطبك من الشرق فترد علىّ من الغرب» فى إشارة لظاهرة الحديث باللغات الاجنبية بين الشباب العربى. الجدير بالملاحظة أن هذه المبادرة سرعان ما صادفت أصداء طيبة وردود فعل مشجعة سواء على صعيد التبرعات المالية التى قدمها رجال أعمال عرب ومؤسسات عربية أم على صعيد المقترحات والأفكار. يمكن إذاً لجامعة الدول العربية فيما لو قدر لهذه القمة الثقافية أن تنعقد أن تشكل مظلة واسعة لمثل هذه المبادرة بحيث يتم تطوير الأفكار المطروحة حالياً وإطلاق نداء لكل المهتمين بلغة الضاد للإسهام فى إنجاحها ودفعها قدماً إلى الأمام. فلعلّ أهم ما نحتاج إليه فى مثل هذه المبادرة هو تضافر جهود المؤسسات المعنيّة بها وطرح رؤية استراتيجية متعددة المحاور. فنحن نحتاج مثلاً إلى توفير إطار قانونى تحظر بموجبه كل الدول العربية استخدام لغات أخرى غير العربية فى الأوراق الرسمية، وألا تكون اللغات الأجنبية هى المستخدمة وحدها حصرياً فى لوحات الإعلانات ولافتات المحال التجارية المنتشرة فى الشوارع والميادين. نحتاج ايضاً إلى جهد عربى مدروس ومنسق لتحديث وتشجيع المعالجة الآلية للغة العربية على شبكة الإنترنت. فمن غير المعقول أن نجد بعض محتويات المواقع الإلكترونية لبعض وزارات الثقافة العربية معروضاً بلغة أخرى غير اللغة العربية! كما أن بعض مواقع السينما العربية لا تبدى اعتزازاً كافياً باللغة العربية! والاطلاع على التقرير العربى للتنمية الثقافية الذى أصدرته مؤسسات الفكر العربى يبدو مثيراً للقلق حول استخدام اللغة العربية على شبكة الانترنت. ولربما يجب علينا أن نقرأ ما كتبه الدكتور نبيل على وهو أحد الخبراء الثقات فى هذا الموضوع حيث يرى أن الفكر اللغوى العربى لم يواكب بعد ثورة علم اللغة التى تفجرت منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان. (3) المطلوب اليوم إذاً أن يقدم لنا الفكر الثقافى حلولاً ثقافية للتحديات والأزمات التى تواجهنا بأكثر مما يقدم لنا أنساقاً ونظريات. إن حاجتنا لفضائية عربية تخاطب الرأى العام الغربى أو لمبادرة لدعم اللغة العربية مجرد مثالين لا أكثر على أهمية الانشغال بالعمل الثقافى كأدوات ووسائل وليس كأنساق ونظريات. ولا شك أن هناك العديد من المشاريع والبرامج الأخرى التى تحتاج لإطلاقها من دوائر الفكر إلى أرض الواقع. قضية توحيد أو بالأقل تقنين المناهج التعليمية فى المدارس العربية هى مثال آخر سيما فى ظل الازدواجية التعليمية المتفاقمة فى العالم العربى بتأثير طغيان المدارس الخاصة والأجنبية. فالتلميذ العربى يدرس اليوم «مناهج تاريخ» عربية مختلفة وربما متناقضة بدلاً من أن يدرس «منهج» تاريخ عربى واحد!! الكتب المدرسية العربية بدورها تتضمن أحياناً قيماً متباينة وربما أيضاً متناقضة! هل بوسعنا أن نقول إن المدرسة هى الحل؟ ولم لا؟ هذا شعار آخر يضاف إلى كل شعاراتنا، حيث كل يغنى لهمومه وقناعاته! [email protected]