بالرغم من ضبابية المشهد والقلق الذي ينتابنا جميعا حول ما قد تسفر عنه تداعيات الأحداث الجارية, وعما يمكن أن يكون عليه شكل مصر في السنوات المقبلة. لا أملك أن أنحي عن رأسي صورة تخايلني بين الحين والآخر..مقعد الرئاسة و قد أحاطت به أكوام من الملفات السياسية و الاقتصادية, بينما انزوت في ركن بعيد من الغرفة ملفات يعلوها التراب, بالكاد تظهر عناوينها.. ثقافة.. تعليم.. إعلام... حريات..مواطنة.. فنون. و بالرغم من مراعاة منطق الأوليات الحاكمة في ظل الظروف الحرجة التي نواجهها الآن, إلا أن كاريكاتورية الصورة المتخيلة تعكس حقيقة مهمة تؤكدها الممارسات و البرامج الانتخابية سواء قبل الثورة أم بعدها, فالثقافة كانت ولا تزال أشبه بكم مهمل منسي في غرفة الكرار( التي كانت جزءا أصيلا في بيوتنا المصرية قديما, وحلت مكانها اليوم الأسطح و الشرفات) أو حلية مسجونة في أدراج شكمجية, نخرجها في المناسبات لنتزين ثم ما نلبث أن نعيدها لمحبسها ولا نتذكرها إلا في المناسبات أو عند الملمات.. و في كلا الحالتين, و في أي من الصورتين تظل الثقافة وقضاياها رهينة جدران محبس عطب الهواء..مشلولة, عاجزة عن التفاعل والتطور مع المجريات والمستجدات, أو تقديم الحلول للإشكاليات التي يواجهها الوطن. ومن المؤكد أننا لا نأتي بجديد عندما نكرر ما سبق أن أكده باحثو مصر عندما قالوا إن ثروة مصر الحقيقية في المصريين, و أن دراسة ثقافة المجتمع وتحليلها كفيلة بأن تشخص واقعه وطبيعة بنائه, والمشكلات أو الظواهر السلبية التي تظهر في إطاره, ومن ثم أوجه القصور التي يعانيها, إضافة للآثار المحتمل ظهورها بسببها. وإذا ما عدنا لدراسة د. علي ليلة أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس التي جاءت تحت عنوان- الثقافة و منظومة القيم الاجتماعية يطالعنا تحليله حول طبيعة المجتمع المصري, إذ يقول إن تأمل المجتمع المصري يكشف عن مجموعة من الحقائق الأساسية,تتمثل أولها في امتلاكه القدرة علي البقاء, وأن قوته نابعة من ذاته دائما, فتخلفه وتقدمه صناعة محلية بحتة, وفي أحيان كثيرة يفيض علي منحوله ليسهم في تأكيد تطورهم وتقدمهم,حدث ذلك حينما تم تهجير العمالة المصرية إلي عاصمة الخلافة العثمانية في عصر السلطان سليم, وحدث نفس الشيء في العقود الأخيرة من القرن العشرين, فالمجتمع المصري تكمن قوته في قدرته علي العطاء, عن إيثارية ورغبة في تطوير أوضاع الآخرين, غير أن هذا المجتمع مثلما يمتلك قوة ذاتية, يعاني من ضعف ذاتي, يحدث حينما تتساقط المبادئ لديه, إذ يؤكد لنا التاريخ أن هذا المجتمع يصبح قويا حينما يمتلك المبادئ, التي توجه حركته وتنظم تفاعله, غير أنه حينما تضيع منه المبادئ, تتردي حركته ويتخبط وتضيع منه ذاكرته التاريخية وخبرته في مواجهة الأزمات والصعاب, وهي الحالة التي يعاني منها الآن, و يشير د.أحمد مجدي حجازي أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة في دراسة حول منظومة القيم الإيجابية الداعمة لرؤية مصر(2008). إلي أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعرضت لها مصر في العقود الأخيرة أحدثت انقلابا في منظومة القيم الاجتماعية الإيجابية التي صاغت سلوك المصريين, ووحدت توجهاتهم وصبغت الشخصية المصرية بطابع فريد من المروءة والجدية والإتقان والتسامح واحترام الآخر والصدق وإنكار الذات وغيرها من القيم الأصيلة, وأفسحت هذه التحولات المجال لقيم سلبية معوقة وشوهت السلوك النمطي للشخصية المصرية.. كما يحذر نفس الباحث في دراسته أزمة القيم والهدر الأخلاقيمن خطر انتشار ثقافة الفوضي, و تحولها لنظام معترف به وحالة طبيعية لا تثير اهتمام الناس, مشيرا إلي أن القيم الاجتماعية منظومة الحياة وعمادها, وإذا تعرضت منظومة القيم الاجتماعية إلي هزات أو تحولات غير مرغوب فيها أو انتابها نوع من الخلل, تدهورت أحوال البشر وعم الفساد في الأرض وشعر الناس كما يشير ابن خلدون في مؤلفه المقدمة بفقدان التوازن وعدم الثقة في الآخر, وضياع الرؤي, وانتاب البشر حالة من الإحباط والعجز وعدم الرضي والقلق والتوتر, وشاعت بين الناس حالة من الإحباط والتردي والوهن, وسادت ثقافة الفوضي والهدر الأخلاقي وفقد الناس القدرة علي التنظيم والالتزام, وضعف لديهم الشعور بالانتماء للوطن أو الاقتناع بجدوي المواطنة, و يرصد الباحث جوانب من أسباب خلل المنظومة القيميه, مشيرا بأصابع الاتهام إلي المحاكاة لثقافات سلبية مغتربة; والهيمنة الثقافية والاختراق الفكري, والطموح الاستهلاكي الترفي, و سيادة سلوكيات هابطة تبحث عن الجنس وتستجيب للغرائز الدنيا, وانتشار أنواع من الفن الرخيص, واختفاء الفن الراقي والرفيع, وانتشار اللغة الهابطة بين الشرائح الاجتماعية المختلفة, وشيوع التفكير الخرافي, واللاعقلانية في التفكير الديني, وتدني مستوي التعليم, وانحطاط حال المؤسسات التربوية, ودور وسائل الإعلام والإعلان في تسطيح الثقافة وترسيخ قيمة متعة التسوق. و تضيف الباحثة الجزائرية ليلي بلعيفة في دراستها عن التغير القيمي( السوسيو- ثقافي) في المدينة الجزائرية, أسبابا أخري لظاهرة التغير القيمي موضحة أنها أصبحت ظاهرة معولمة لم تسلم منها كل البني الاجتماعية خاصة المجالات الحضرية, بسبب تأثير وسائل الاتصال, في ذات السياق نعود لتحليل كارل مانهايمK.Manheim الذي يرجع تغير القيم للتفاعل المستمر بين الفرد و محيطه المتغير, طبقا للعوامل الثقافية و الاجتماعية, الأمر الذي يؤدي لظهور أشكال قيميه متباينة و تزايد حالة عدم التجانس القيمي بين القيم التقليدية والعصرية مما يؤدي لحالة من الصراع الاجتماعي بين الأجيال من جهة, وصراع إيديولوجي بين حاملي القيم المتناقضة من جهة أخري مع إمكانية التحول للعنف بين الجماعات الاجتماعية التي تتصادم مصالحها, أو تتعارض أفكارها. وخلاصة القول, ومن كل ما سبق يتضح أن كثيرا من العوامل التي تداخلت لتشكل منظومة قيمية جديدة في المجتمع المصري والتي خلقت فضاء مواتيا لظهور سلوكيات وأزمات, البعض منها بات يهدد المجتمع والبعض الآخر يقف حجر عثرة في طريق استعادة وجه مصر الحقيقي, تقبع في أوراق تلك الملفات الثقافية المهملة التي نتعامل معها حتي اللحظة بمنطق غرفة الكرار, أو الشكمجية في أحسن الأحوال!!.. والسؤال الآن ما هي الملفات الثقافية والرؤي التي يري المثقفون أنها لابد أن تتحرك من الركن المنسي في حجرة الرئاسة, وأن ينفض عنها التراب لتحتل موقعها علي سطح مكتب الرئيس لاستعادة المواطن المصري؟! أسئلة ربما نجد بعض إجاباتها في التحقيقين التاليين.