عندما زار رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد القاهرة في أواخر يونيو2011 بعد ثورة يناير كانت له تصريحات مهمة قال فيها إن نجاح الثورة المصرية مرهون بوقف المظاهرات, لأنها تعيق البلاد عن التقدم والإنتاج, وفي مناسبة أخري, سئل عن السر وراء المعجزة التي حققتها ماليزيا إبان فترة توليه رئاسة الحكومة من1981 إلي2003, فأجاب بكلمتين: دولة القانون, وفي مناسبة ثالثة قال إن الديمقراطية في مصر لن يكتب لها النجاح إلا بعد قبول نتائجها. وللأسف, لم تلق نصائح الدكتور مهاتير أو محاضر كما ينطقونه في ماليزيا أي استجابة! وإذا تحدثنا عن مهاتير, يجب علينا أن نعرف ما الذي فعله الرجل بالتحديد لكي يحول ماليزيا من واحدة من أفقر دول العالم إلي واحدة من أبرز القوي الصناعية العالمية, لعلنا نقتنع بأنه يمكن أن يوجه لنا نصائح مفيدة حقا. فالأرقام الآن تشير إلي أن قطاعي الصناعة والخدمات يساهمان بنسبة90% من الناتج المحلي الإجمالي لماليزيا, وصادرات السلع المصنعة محليا تمثل85% من إجمالي الصادرات, ومن أبرزها أقراص الكمبيوتر الصلبة الهارد ديسك, في حين أن80% من السيارات التي تسير من شوارع ماليزيا هي صناعة محلية, ومعدل البطالة لا يتعدي3%, ومتوسط دخل الفرد يقترب من14 ألف دولار سنويا, وتعتبر عملتها المحلية الرانجيت من أقوي العملات الآسيوية. ومن يحاول التعرف أكثر علي ماليزيا سيدرك أن هذا البلد يملك من مقومات الانهيار والشتات أكثر من مقومات النجاح وصنع المعجزات, فماليزيا لم تحصل علي استقلالها إلا في عام1957, وعانت من عدم الاستقرار السياسي التي بلغت ذروتها في اضطرابات عام1969 الشهيرة, ومن كونها واحدة من أفقر دول العالم حتي وقت ليس ببعيد, أما شعبها الذي يبلغ عدده28 مليون نسمة فهو خليط من أعراق وقوميات وديانات مختلفة ومتصادمة, نصفهم من الملايو سكان البلاد الأصليين والنصف الآخر خليط من البوذيين والصينيين والهنود, وحتي الأديان الموجودة في ماليزيا كانت كفيلة بالقضاء علي وحدة أي بلد آخر, فأكثر من60% من الماليزيين مسلمون, و20% بوذيون, و9% مسيحيون, و5,6% هندوس, ولكن ما حدث هو العكس تماما. ونظرا لأن أنجح التجارب الاقتصادية العالمية بدأت من رحم الدمار الشامل, أو من تحت الصفر, كما هو الحال في تجارب ألمانياواليابان وكوريا الجنوبية, فإن مهاتير قرر البدء من تحت الصفر, فجعل اليابان نموذجا ومثلا أعلي لبلاده, وقرر تطبيق النموذج الاقتصادي الياباني بالحرف الواحد في بلاده فور مجيئه إلي السلطة, ودعا شعبه لأن تكون ماليزيا يابانا جديدة في آسيا. وبالفعل, كانت كلمة السر في فلسفة مهاتير الاقتصادية هي الصناعة, فقد كان من السهل علي ماليزيا أن تكتفي مثل الدول الكسولة بتصدير المواد الخام والموارد الطبيعية إلي الخارج والحصول علي الفتات في مقابل ذلك, فالموارد الطبيعية لدي ماليزيا كثيرة للغاية. ولكن مهاتير وضع خطة طموحة وقوية لتحويل بلاده من الاقتصاد القائم علي الزراعة إلي الاقتصاد المستند إلي الصناعة, وخاصة في مجال إنتاج أجهزة وبرمجيات الكمبيوتر والمعدات والأجهزة الإليكترونية, ولم يكتف مهاتير وحكومته بوضع خطط علي الورق, بل كانت مهمته منذ البداية توفير الأرضية اللازمة لنجاحها, فكان اهتمامه بفرض تعليم أساسي بمناهج موحدة تضعها الحكومة حتي يحصل أفراد الشعب علي مستوي تعليم واحد متطور, وكان اهتمامه بمشروعات البحث العلمي وبراءات الاختراع التي لا حديث عن نهضة صناعية بدونها, وكان هناك أيضا الاهتمام بإقامة مشروعات البنية الأساسية اللازمة لقيام النهضة الصناعية الكبري. كل هذه المشروعات اعتمدت فيها حكومة مهاتير في باديء الأمر علي قروض ضخمة من صندوق النقد الدولي, وتحمل معها الرجل الكثير من التدخلات والسخافات من جانب إدارة الصندوق, إلي أن تمكنت بلاده من النهوض علي قدميها لتتوقف عن الاقتراض, ولعل هذا من بين الأسباب الرئيسية التي جعلت الرجل يكفر بفكرة العولمة فور ظهورها وانتشارها, وذلك قبل أن يجري الصندوق نفسه إصلاحات سياسية تضمنت وقف فرض الشروط والتدخلات علي الدول التي تقترض منه كما كان يحدث من قبل, والاكتفاء بسياسة المراجعة الدورية للسياسات الاقتصادية. هذا عن الاقتصاد, فماذا عن التركيبة العرقية المعقدة للمجتمع الماليزي؟ إن الزائر لماليزيا يشعر بأنه من فرط التباين العرقي والديني وكأنه زار ثلاث دول في آن واحد: ماليزيا والصين والهند, فالفئات الثلاث موجودة, وكل فئة تعيش بمفردها علي الأرجح من الناحية الاجتماعية, فيندر التزاوج مثلا بين المالايو والبوذيين, أما في السياسة فالجميع يحظي بحقوق متساوية, والحرية الدينية مكفولة لجميع السكان, بموجب نص دستوري يطبق بصرامة. ولكن تجدر الإشارة هنا إلي أن الدستور الماليزي ينص صراحة علي أن أغلبية سكان البلاد هم من المسلمين المالايو, ويلزم المسلمين بالشريعة الإسلامية وباتباع قرارات المحاكم الشرعية المحاكم الشرعية عندما يتعلق الأمر بالمسائل الخاصة بدينهم, وهذه المحاكم بالمناسبة تتبع المذهب الشافعي. إذن فنحن هنا أمام دستور وضعه الماليزيون بأيديهم ليناسب طبيعة خاصة لشعب يعرف كيف يحدد هويته الأساسية ويتمسك بها, وكيف يحترم أيضا حقوق أقلياته, وبالتالي يلتزم به الجميع, ويطبقونه بدون ضجر. ولهذا, فليس مدهشا أن تجد في شوارع كوالالمبور مثلا النقاب والحجاب والصلبان والساري الهندي والملابس الغربية المثيرة وغير المثيرة جنبا إلي جنب, كل يحترم عادات وديانات الآخر, وفي حالة تعايش وتناغم إذا لزم الأمر في مجالات كثيرة, بل ويمكنك أن تجد في كل مركز تجاري أو كل مطعم أصناف المأكولات الرئيسية التي تناسب المسلم والمسيحي والبوذي وفقا لتقسيمات منضبطة, دون أن يعترض أحد علي وجود الآخر أو يفرض شرائعه عليه. والطريف هنا أن مهاتير نفسه نموذج لتركيبة المجتمع الماليزي وتأريخا لمراحل نموه, فهو من أصول هندية, ولكن جدوده من المالايو, ومرحلة طفولته وشبابه أثرت كثيرا علي أفكاره وسياساته لاحقا, فهو من مواليد بلدة ألور سيتار بولاية قدح إحدي الولايات الماليزية, وكان فقيرا, وعمل في صباه في بيع فطائر الموز والوجبات الخفيفة لتوفير الدخل لأسرته. وأخيرا.. ألا تستحق تجربة مهاتير منا الاهتمام والاحترام كما احترمه العالم أجمع؟ أم أننا سنظل مصرين علي الاستخفاف بتجارب الآخرين الذين سبقونا في مراحل التحول السياسي والديمقراطي والاقتصادي.. أو ربما عدم الاهتمام بمعرفتها أصلا؟ وماذا لو كنا استمعنا إلي نصائح' مهاتير' منذ منتصف2011 ؟! أم أننا لم نعد نقرأ أو نسمع أو نفهم؟!