عبر عقود وعهود, ومنذ غزو إبراهيم باشا لأعالي النيل, إلي معركة كتشنر مع المهدي, وحرب جوردون مع الإمام الكبير, كنا ننظر إلي السودان باعتباره دوما نتيجة للمتغير المصري. لكن ذلك الوضع اختلف ربما للمرة الأولي في فترة ما بعد يناير, إذ أدي انكباب مصر علي أوضاعها الداخلية المأزومة, ونذر الأخطار الكبري التي تلوح لها داخليا وإقليميا ودوليا, إلي إضعاف قوتها لا مراء, وعلي نحو جعلها الأكثر تأثرا بالمتغير السوداني, أو بما يشكل سابقة تاريخية, ومن تلك الزاوية نظرت باهتمام إلي محاولة الانقلاب التي ذاعت أنباؤها في الخرطوم منذ أسابيع بقيادة صلاح قوش رئيس المخابرات السابق, ودستة من لواءات الجيش والشرطة, إذ أن مجرد التفكير في الاحتمالات التي قادت إلي محاولة الانقلاب يضعنا أمام أسئلة خطيرة, وإجابات أخطر, فهل كانت محاولة الانقلاب لتحرير الإرادة السياسية السودانية بعد أن رهنها نظام البشير بملف المحاكمة الدولية الجنائية للرئيس السوداني والادعاء بارتكابه جرائم قتل جماعي في دارفور, وبما أدي في النهاية إلي قبوله التقسيم, وبعبارة أخري هل كان قادة الانقلاب يتوقعون تمردات جديدة في دارفور وكردفان, وهل خشي الضباط أن يتساهل البشير إزاء تلك التمردات خوفا من المحاكمة التي تلاحقه؟ ثم هل كان انقلاب صلاح قوش لإنهاء سيطرة الفلسفة الإسلامية علي الحكم في بلد وصل إلي التقسيم نتيجة تجاهل النميري لتعدد الثقافات فيه, وتطبيقه أحكام الشريعة لا مبادئها بمعانيها الحرفية, ونتيجة كذلك لمصادقة البشير علي اتفاقية ماشاكوس التي وقعها في مبادلة ضمنية اشتري فيها بقاء نظامه مقابل رضائه بأولي خطوات التقسيم؟ وهل شعرت طبقة من الضباط داخل الجيش أن النظام ربما ينادي علي قوي الغضب الإسلامي في الشيشان وأفغانستان والعراق وغيرها لتدافع عن أرض الإسلام في السودان إذا واجه البشير نذر خطر تهدد استقرار نظامه, وبما يعرض بلدهم لخطر العصف به من قبل الغرب؟. يعني السودان في مرمي أخطار التدخل الدولي, وهو ما يؤثر مباشرة علي مصر, لاسيما أن بلدنا بالإضافة إلي مشكلاته مع بدو سيناء, وأمازيج سيوة والصحراء الغربية, هو أيضا بإزاء مشكلة مع النوبيين, وفي فضاء ملاصق للسودان, لا بل وله امتداداته داخل الأراضي السودانية. نحن نسمع نداءات تتحدث عن الاستقلال, وحق تقرير المصير, وأي مؤسسة عسكرية الآن لا تستطيع فرض وحدة الدولة ومن ثم الصدام مع أي نزاعات انفصالية غير وارد, ولكن الانتباه, وحسن تقدير الموقف, واختراع آليات تنافسية للتأثير وحصار التداعيات, يصبح من أوجب الواجبات, لأن أي تغيير في أحجار الدومينو السودانية سوف يؤثر علي احتمالات وضع تعقد في جنوب مصر لعهود. المزيد من أعمدة د. عمرو عبد السميع