هل يمكن أن تصل مصر إلي الإفلاس؟! سؤال سهل.. لكن إجابته صعبة.. وصعبة جدا. فالحديث خرج من دائرة الهمس إلي العلن, وصارت هناك مخاوف عديدة لدي الناس. ولاسيما أن المخاوف جاءت متزامنة مع إعلان محافظ البنك المركزي استقالته, وبلوغ الشأن الاقتصادي مرحلة حرجة حسب ما أكدته التقارير الاقتصادية الصادرة عن الوضع المالي المصري مع تواصل تراجع الاحتياطي النقدي وانخفاض الجنيه أمام العملات الرئيسية الأخري, مما يهدد برفع أسعار عدد كبير من السلع التي تلجأ مصر لاستيرادها من الخارج. وفي الوقت نفسه كان البنك المركزي قد أعلن عن انخفاض احتياطي النقد الأجنبي بنقص قدره844 مليون دولار, ومن بعده صرح وزير المالية عن احتمالية وصول عجز الموازنة إلي نحو002 مليار جنيه. فتحنا هذا الملف.. ووضعناه أمام المتخصصين حتي نطمئن. الدكتور حازم الببلاوي وزير المالية الأسبق قال: إنه لا يوجد شيء اسمه إفلاس الدول, فالإفلاس ظاهرة متعلقة بالتجار, لكن هذا لا يمنع أن تواجه الدول صعوبات اقتصادية ومالية تحول بينها وبين الوفاء بديونها في الوقت المطلوب. وهنا لابد من التفرقة بين الديون الخارجية والديون المحلية, فالمحلية يصعب أن تمتنع الدولة عن الوفاء بالتزاماتها, وإن كانت تلجأ في كثير من الأحيان لمواجهة مثل هذه الصعوبات باتخاذ سياسات اقتصادية من شأنها ارتفاع الأسعار, وبالتالي تحميل المواطنين عبء مشكلات الدولة. أما المشكلة الحقيقية التي تواجه الدول كما يصفها د. حازم الببلاوي, فهي تتعلق بالتزاماتها الخارجية بالعملات الأجنبية, وفي هذه الحالة إذا وجدت الدولة نقصا في مواردها الأجنبية, فقد تتأخر عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية, وهذا ما يطلق عليه عموما أن الدولة قاربت علي الإفلاس, برغم أن هذا ليس المعني الفني والدقيق للإفلاس. والمعني المحدد له هو أن التاجر تشل يده عن أمواله وتخصص وتوزع علي الدائنين, أما في حالة الدول التي تواجه صعوبات, فإنها تتعرض لمزيد من الضغوط الخارجية من حيث إمكانية الحصول علي تسهيلات من البنوك, وبذلك تتأثر تجارتها الخارجية. ويشير وزير المالية الأسبق إلي أن مصر كانت قد واجهت شيئا مماثلا في نهاية الثمانينيات, حيث تخلفت مصر عن الوفاء بالعديد من الديون الخارجية, وجاءت حرب الخليج مما ساعد في حصول مصر علي مساعدات وإعفاءات من الدول الأجنبية, فقد أعلنت الدول العربية عن إعفاء مصر من ديونها تجاهها, وكذلك الحكومة الأمريكية أعفت مصر من الدين العسكري, ثم مجموع دول العالم أعلنت إعفاء مصر من نصف الديون العامة في مؤتمر باريس, واستطاعت مصر بعد ذلك أن تنتظم في علاقاتها الخارجية. ومع أن الوضع في مصر دقيق الآن, فإن السبب الرئيسي لا يرجع إلي أوضاع الاقتصاد الحقيقية بقدر ما يرجع إلي عدم الاستقرار السياسي والأمني كما يبدو في الصورة الخارجية, ولذلك فإن الإصلاح المطلوب هو بالدرجة الأولي إصلاح سياسي قبل أن يكون اقتصاديا. أما الدكتور صلاح جودة مدير مركز الدراسات الاقتصادية بجامعة النهضة فيؤكد أنه إذا استمر الوضع السياسي الضبابي بما هو عليه والأداء الاقتصادي المتردي للحكومة, فإن مصر قد دخلت النفق المظلم للإفلاس, وهو ذات ما حدث مع اليونان في منتصف1102, ولكن الفرق أن دول منطقة اليورو قد ساعدت اليونان للخروج من عثرتها وإقالتها من التعثر المالي, وذلك حفاظا علي منطقة اليورو أولا ووضع الاتحاد الأوروبي وأيضا وضع دولة اليونان, ولكن للأسف فإن مصر لم تساعد نفسها حتي يساعدها الآخرون, فقد أضاعت مجموعة من الفرص منذ يوم الجمعة الموافق1102/2/11 وهو تاريخ تنحي الرئيس السابق عن الحكم وحتي51 ديسمبر.2102 وهذه الفرص كانت عبارة عن مجموعة من المنح والمعونات والمساعدات والقروض الميسرة التي كانت تقدم لمصر سواء من الدول الأوروبية أو المؤسسات الدولية أو الدول العربية, وذلك بسبب الأيادي المرتعشة للحكومات خلال الفترة الانتقالية, خاصة حكومتي د. عصام شرف ود. كمال الجنزوري, حيث إنهما رفضا الاستمرار في توقيع المواثيق والمعاهدات بشأن هذه المنح والمعونات, هذا إلي جانب الإنفلات الأمني, والذي كان له أثر كبير في هروب الاستثمارات من مصر. ويضع د. صلاح مجموعة نقاط لإنقاذ الموقف, علي رأسها وضوح الرؤي السياسية وتشكيل حكومة جديدة قوية وذات حس اقتصادي, وأيضا وضع خطة اقتصادية يشترك بها كل التيارات والخروج بخريطة طريق اقتصادية واضحة المعالم, كما أنه من الضروري والحتمي في هذا التوقيت أن يقوم رئيس الجمهورية باتخاذ مجموعة من القرارات السياسية والاقتصادية التي تساعد علي تهيئة مناخ الاستثمار بشرط أن يكون ذلك خلال مدة لا تتجاوز شهرا منذ الآن لكي تستطيع مصر أن تستعيد بعضا من عافيتها الاقتصادية. بينما يري الدكتور أحمد النجار عضو اللجنة الاقتصادية بحزب الحرية والعدالة أن الكلام عن الإفلاس غير صحيح, وغير مقبول ترويجه من الناحية الاقتصادية لعدة أسباب, أولها أن مفهوم إفلاس الدولة يرتبط بعدم قدرتها علي سداد التزاماتها الدولية والمتمثلة في الدين العام الخارجي الذي يبلغ حاليا5.33 مليار دولار, يدفع عنه أقساط نصف سنوية قيمتها الكلية1,5 مليار دولار, فهل توقفت مصر أو لن تستطيع تدبير5.1 مليار دولار سنويا حتي تعلن إفلاسها؟! ولكن هناك دول كثيرة عانت من أزمات اقتصادية أكبر من ذلك بكثير, ولم تعلن إفلاسها أو يتم الحديث في أوساطها السياسية والاقتصادية عن احتمالات الإفلاس, فمثلا تركيا في عام0002 وقبل تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم كانت تعاني من معدلات تضخم تقترب من007% وانهيار تام لعملاتها المحلية وتضخم في الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي ووصول معدل البطالة لأكثر من04%, ولم يؤد ذلك إلي إفلاس الدولة, بل وتعد تركيا حاليا من ضمن أكبر02 اقتصادا علي مستوي العالم. في السياق ذاته وصف الدكتور عبدالله شحاتة رئيس اللجنة الاقتصادية بحزب الحرية والعدالة ما يدور حول الإفلاس بأنه كلام غير منطقي ولا أساس له من الصحة, لأن الإفلاس معناه أن تعجز الدولة عن سداد ديونها, ونحن في مصر نقوم بسداد مستحقات الديون في مواعيدها, إلي جانب أن الديون المستحقة مستقبلا مدرج أعباؤها في موازنة هذا العام, وبالتالي من يتحدث عن الإفلاس مغرض ويريد إحداث بلبلة ولا يعي معناه الحقيقي أساسا. فمصر تمر بأزمة اقتصادية ولكن ليست أسوأ من اليونان وبعض الدولة الأوروبية, وعلي الرغم من هذا فلم يتطرق أحد بالحديث عن الإفلاس في هذه الدول, مع أن الوضع الاقتصادي لها قد يكون مأساويا مقارنة بالوضع في مصر, والدليل علي ذلك المؤشرات الإيجابية في الربع الأول من هذا العام فيما يتعلق بالنمو والتشغيل بالقطاعات الإنتاجية والخدمية المختلفة. د. عبدالخالق فاروق مدير مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية يؤكد أن سوء الإدارة الاقتصادية الراهنة وعدم دقة تشخيص المشكلات بصورة صحيحة أحد أهم أسباب الأزمة الحالية, بل وستؤدي إلي زيادة المشكلات في المستقبل وليس حلها. ويطرح د. عبدالخالق مجموعة من الحلول لتجاوز هذه الأزمة, وأهمها إعادة هيكلة السياسات المالية ووقف الهدر والإنفاق السفيه خاصة في الباب بين الأول والثاني من الموازنة العامة, وكذلك إعادة ضبط الإنفاق في الهيئات الاقتصادية وضمها إلي الموازنة العامة للدولة. هذا إلي جانب إعادة التفاوض علي تصدير الغاز المصري الذي يباع بثلث سعره العالمي إلي6 دول, وتطهير قطاع البترول والهيئة والوزارة من شأنه أيضا أن يوفر لنا مبالغ إضافية, بالإضافة إلي فرض ضريبة عقارية علي المنتجعات السياحية والسكنية من شأنها توفير4 مليارات جنيه سنويا علي الأقل. إلي جانب إعادة النظر في السياسات الضريبية واتباع مبدأ الضريبة التصاعدية وتطبيق برنامج الحد الأقصي والأدني للأجور بما يؤدي إلي استقرار الأوضاع الاجتماعية لكاسبي الأجور والرواتب, كما ينبغي إعادة النظر أيضا في فلسفة السياسة الاقتصادية القائمة علي حرية السوق وإدخال عناصر التخطيط في إدارة الأمور الاقتصادية, وتفكيك الاحتكارات في الأسواق للسيطرة علي معدلات التضخم وارتفاع الأسعار. كما ينبغي والكلام مازال للدكتور عبدالخالق فاروق إعادة هيكلة الواردات المصرية لتخفيض العجز في ميزان المدفوعات, وإعادة هيكلة سياسة الدعم بما يتناسب مع احتياجات الفقراء ومحدودي الدخل. وفي سياق متصل يري الدكتور نبيل حشاد الخبير الاقتصادي أننا في موقف اقتصادي وسياسي عصيب, وأصبح اليوم الاستقرار الاقتصادي مرهونا بالكامل بالاستقرار السياسي, وما نراه من تداعيات دولية علي الاقتصاد المصري في مقدمتها تخفيض التصنيف الائتماني السيادي للدولة إلي درجةB, وهو ما يجعل مصر الآن تدخل في دائرة الدول التي يوصي بعدم الاستثمار بها, ويرجع ذلك إلي الوضع السياسي اللاتوافقي بين الأحزاب والجهات المختلفة من ناحية, وتصريحات بعض المسئولين وعلي رأسها التصريح الأخير لوزير المالية, والذي قال فيه إن الدولة علي وشك الإفلاس إذا استمرت الأوضاع علي ما هي عليه. ويضيف د. نبيل أن هذا التصريح عندما يخرج من المسئول عن مالية الدولة فستتلقفه المؤسسات الدولية وخصوصا مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية مثل مؤسسة استاندر أندبورز وتخفض التصنيف الائتماني أو الجدارة الائتمانية لمصر. ويؤكد أهمية دراسة تجارب الدول الأخري فيما يتعلق بالإفلاس للوقوف علي وضع مصر الحقيقي, ومنها علي سبيل المثال في الوقت الحديث أيرلندا, فعندما نقارن وضعنا الاقتصادي بوضع أيرلندا فنجد أن الأوضاع في مصر أفضل حالا من ناحية قيمة العجز والمديونية الخارجية التي لم تصل إلي51% من الناتج المحلي الإجمالي, وفي العادة يتم التصنيف الائتماني للدولة بما اقترضته من الخارج بالعملة الأجنبية, أما بالنسبة للدين المحلي بالعملة المحلية فقد تجاوز الحدود الآمنة بمراحل. ويعتقد د. نبيل أن تصريحات المسئولين خاصة الوزير بما يتعلق بالإفلاس كان الغرض منه دق ناقوس الخطر بشدة إلي ما يمكن أن تئول إليه الأمور إذا استمرت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في هذا التردي. ويؤكد ضرورة رسم خريطة طريق لما يجب عمله في المستقبل لتفادي الوقوع في نفق الإفلاس.