شهدت مصر لأول مرة حدثا إعلاميا غير مسبوق دوليا وإقليميا. الحدث هو انفعال وتفاعل أعداد ممن يتلقون الرسالة الإعلامية إلي درجة انتقالهم الجماعي الغاضب إلي القائمين بإرسال الرسالة. انطلقت المجموعات الغاضبة التي قدرت بالمئات, وأغلبهم من إسلاميين, إلي مدينة الإنتاج الإعلامي, حيث أكبر تجمع للفضائيات الخاصة في الشرق الأوسط. والمدهش أن المحتجين لم يكتفوا بالتظاهر الغاضب القصير النفس. لقد خيموا أسبوعا كاملا, وأقاموا منصة عبروا فيها عن انتقادهم واحتجاجهم السلمي علي محتوي إعلامي اعتبروه غير مهني. ويثير هذا التطور تخوفات وجدلا علميا ومهنيا, أتوقع له ألا يهدأ, إلا بوضع المجتمع قواعد أخلاقية ومهنية لمنظومة الإعلام بكل أبعادها. لقد تخوفت في البداية من هذا التطور, لكن تخوفي زال بمرور عدة أيام علي المعتصمين, وملاحظتي ضبطهم أنفسهم, وحماسهم, وصبرهم علي زمهرير الشتاء في ليل ديسمبر القارس. وفي اليوم الثالث ترجلت من السيارة وتحدثت إليهم فرادي وعبر المنصة التي أقاموها. ومن المعاني التي أثرتها معهم: أننا كإعلاميين اعتدنا أن نرسل رسائلنا الإعلامية غير مكترثين كثيرا برجع الصدي. صحيح تتلقي الصحف والفضائيات رسائل القراء والمشاهدين, لكنها أبدا لم تتوقع أن يتحرك المتلقون كما فعلتم من أجل تنبيهنا وإهدائنا عيوبنا بهذا الشكل المنضبط. وقلت لهم أيضا إن هذا التطور الإيجابي بسلميته وعفة ألفاظه يضيف إلي مهنة الإعلام ولا يخصم منها, ولاسيما إذا جري حوار مباشر بين المرسل والمتلقي. لعل في الحديثين الشريفين تأصيلا لهذا النوع من العلاقة بين المرسل والمتلقي: من رأي منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمانوانصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره. صدقوني لو كنا كمتلقين في العقود الستة الماضية بهذه الإيجابية والتفاعل الحركي مع مرسلي الرسائل الإعلامية السلطويين والتابعين للرأسمالية النهبوية المتوحشة, ما وصلنا إلي هذه الدرجة من الفساد والتخلف في مصر المحروسة. لو تصدينا لمن ضللونا في يونيو67 وقالوا إن جيشنا أقوي قوة ضاربة في الشرق الأوسط, ما انهزمنا وما قتل عشرات الآلاف من خيرة رجالنا. ولو تصدينا لإعلام غسل الأدمغة الذي مرر كامب ديفيد, ما اخترقتنا إسرائيل, وما عاثت في مصر فسادا, وفي فلسطين تقتيلا وقضما للأرض. وأخيرا لو كنا تصدينا كمتلقين لإعلام مبارك وعصابات النهب المنظم لثروات مصر, ما انفجرت الثورة بتداعياتها, وشهدائها ومصابيها. من حسن الطالع أن مسودة الدستور الجاري استفتاء الشعب عليه, تضمنت وضمنت في الفصل الخامس تأسيس المجلس الوطني للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والإعلام. ومن فضل الله أن الجماعة الإعلامية والصحفية المحترمة والغيورة علي مهنتها كانت تنبهت إلي خطورة ظاهرة الامتطاء والاختراق والترهيب والترغيب, فتنادت إلي وضع مشروعي قانونين يستنقذان الصحافة الناطقة والنصية ممن يسيئون بها وإليها. سلمنا مشروع قانون المجلس الوطني للإعلام المسموع والمرئي إلي مجلس الشعب المبطل, بعدما أعدته مجموعة تشرفت شخصيا بالعمل معها, وضمت بحسب السن الأساتذة السيد الغضبان وحمدي قنديل ومحمد هاني وياسر عبدالعزيز, والأستاذة مني الشاذلي. وقد طلبت شخصيا من السيد رئيس الجمهورية في أول لقاء له بالإعلاميين أن تدرس مؤسسة الرئاسة هذا المشروع, ثم يصدره سيادته كمرسوم بقانون يعرض علي البرلمان فور تشكيله. الرئيس فيما يبدو لم يفضل استخدام صلاحياته التشريعية بهذا الصدد. وأظن أن هذا القانون لو كان صدر لتجنبت مصر والمهنة كثيرا من حملات التضليل والتسميم السياسي طيلة الشهور الماضية وتحديدا منذ انتخاب الرئيس. وكنت بشخصي الضعيف قد أعددت في عام2009 لإطلاق ما سميتها المنظمة المصرية لحماية الرأي العام, لتؤدي تقريبا نفس الدور الذي تؤدية جمعيات حماية المستهلك. وعرضت الفكرة بعد اكتمالها علي زملاء مخضرمين من المصريين والعرب فاستحسنوها. وكان من بين هؤلاء الشيخ حمد بن ثامر رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة, والأساتذة فهمي هويدي في الأهرام, ومصطفي سواق مدير عام الجزيرة, وعبد الفتاح فايد مدير مكتبها بالقاهرة, وقطب العربي, وصلاح عبد المقصود, وأمير صديق وفوزي بشري من السودان, ومحمد كريشان من تونس وغيرهم. وقد سرني قبل شهور قليلة أن الدكتور حسن علي أستاذ الصحافة بجامعة المنيا قد شرع فعلا في تاسيس جمعية حماية المشاهدين فجزاه الله خيرا علي هذه المبادرة. إن حالة السيولة السياسية والإعلامية التي نعيشها بعد الثورة أسفرت عن ظاهرة خطيرة وهي مسارعة عدد من رجال أعمال النظام البائد إلي مناوئة الثورة باستخدام سلاح الميديا. الظاهرة قديمة ومتجددة, فقد اعتادت سلطة الدولة ورأس المال وبعض القوي الخارجية اختراق وسائل الإعلام وتجنيد إعلاميين وصحفيين واستخدامهم في الصراع السياسي. الاختراق والتجنيد كان فيما قبل الثورة يحدث سلطويا بالترهيب وبمنح المناصب لغير الجديرين بها. أما بعد الثورة فالقوي الخارجية والرأسمالية النهابة تمارس ترغيب وغواية إعلاميين برواتب فلكية لا يتحصل علي عشر معشارها أمهر علماء مصر. المزيد من مقالات حازم غراب