يمر الوطن في هذه المرحلة الحاسمة, بفترة فارقة, في تاريخ أمتنا, وتستوجب المصلحة العليا للوطن أن نوحد الصف, وستحفظ ذاكرة التاريخ التي لا تنسي مواقف الحق وأسس المواطنة, والحفاظ علي الأمن والاستقرار. ففي هذه الآونة يعبر الوطن تحولا تاريخيا, يستهدف المصلحة العامة لا الخاصة, من أجل مستقبل نستشرق إطلالته ونرقب إشراقته, بقلوب يجب أن تخلص لله أولا, ثم للوطن ثانيا, ويجب أن نعلم جميعا أن لمصر مكانتها التي بينتها آيات الكتاب المبين, ووضحت أن الذين يدخلونها يكونون آمنين, كما قال تعالي:, ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين] سورة يوسف(99). ولأهمية مصر ومنزلتها وصي رسول الله صلي الله عليه وسلم بأهلها, عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:, إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما] رواه مسلم. وقد كان فتح مصر من المعجزات التي أخبر بها رسول الله صلي الله عليه وسلم في حياته وحققها الله تعالي كما أخبر بها. وقد تم الفتح وتحققت المعجزة التي أخبر بها, وذلك في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقوله صلي الله عليه وسلم:, ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط] معني القيراط عبارة عن الوحدة الوزنية من المثقال, ويطلق أيضا علي الوحدة القياسية من الفدان, مساحته: جزء من أربعة وعشرين جزءا من الفدان, وأراد الرسول صلي الله عليه وسلم أن يوضح أنها مصر التي يذكر فيها القيراط, لا مطلق مصر من الأمصار, وهي التي يعنيها القرآن الكريم في قول الله تعالي:, ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين] وذكر الرسول صلي الله عليه وسلم السبب في الوصية بأهل مصر حيث قال:, فإن لهم ذمة ورحما]. أما الذمة فهي ذمة الفتح وعهد الفاتحين الذين فتحوا مصر, فعليهم أن يعطوا العهد لمن فتحوا بلادهم, فيعطونهم الأمان والحماية ويرعون مصالحهم, وفاء بعهد رب العزة سبحانه, ووفاء بحق أهل البلاد, فيعطون الأمان والوفاء والاطمئنان علي دمائهم, وأموالهم وأعراضهم وأبنائهم, مما يجعل أهل البلاد يخلصون في ولائهم وانتمائهم وحفاظهم علي وطنهم. وأما الرحم: فقد كان منذ قديم في عهد الخليل ابراهيم عليه السلام, ونجد هذا في عهد النبي صلي الله عليه وسلم, أما بالنسبة للرحم في عهد ابراهيم عليه السلام فهذا حيث كانت هاجر أم سيدنا اسماعيل عليه السلام من أهل مصر, ومعلوم أن إسماعيل عليه السلام هو أبو العرب وجد النبي الأعلي صلي الله عليه وسلم. وهناك رحم أخري, وذلك بعد الحديبية, وقبل فتح مكةالمكرمة, حيث كتب الرسول صلي الله عليه وسلم إلي كسري وقيصر والنجاشي وهو غير النجاشي الذي صلي عليه النبي صلي الله عليه وسلم عندما توفي, لأن اسم النجاششي هو لقب لكل ملك الحبشة كما أن كسري اسم لكل من ملك الفرس, وقيصر لقب لكل من ملك الروم. وكتب الرسول صلي الله عليه وسلم إلي هؤلاء وإلي غيرهم يدعوهم إلي الاسلام وكتب إلي المقوقس صاحب الاسكندرية وبعث حاطب به أبي ملتعة رضي الله عنه فمضي بكتاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إليه فقبل الكتاب وأكرم حاطبا وأنزله عنده, وأرسل معه بعض الهدايا وهي ثلاث جوار منهن مارية أم إبراهيم. فمارية من مصر وتلك هي الرحم الثانية وأسلمت هي وأختها سيرين, وكانت مارية مباركة علي أهلها وأهل مصر حتي إن الرسول صلي الله عليه وسلم وصي المسلمين اذا فتحوا مصر أن يستوصوا بأهلها خيرا. وما ذلك إلا لأهمية مصر ومنزلتها, وعظمتها ومكانتها, وقيامها بالواجب عليها من الدفاع عن أمتها, ولذا وصفت بأنها أرض الكنانة لأن الكنانة هي الجعبة التي تحمل فيها السهام التي تستخدم في الجهاد, فلمصر رسالتها العالمية تجاه أمتها العربية والاسلامية, حيث إنها تنافح عن أمتها ووطنها, ولذا كان جندها خير أجناد الأرض. وعرف العالم عبر عصوره ما لمصر من مكانة تاريخية وحضارية كبري, ولها دورها المحوري في المنطقة بل وفي العالم كله. ومن أجل ذلك كان واجبا علي أبناء مصر أن يظلوا محافظين علي هذه المكانة السامقة بتوحيد صفوفهم, وجمع كلمتهم وتنقية الأجواء في كل زمان ومكان, وفي كل جيل من الأجيال. وقد وعت ذاكرة التاريخ مواقف شجاعة لأبناء مصر وعلماء مصر وأئمة مصر وزعماء مصر وجنودها وشعبها, لذا وجب علينا أن نحافظ علي وحدة مصر وقوتها وتواصل أجيالها, لتحقيق كبار الآمال التي تصبو إليها أمتنا, والتي تعقد علي مصر فيها الآمال لتحقيقه. وكان كانت وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم بأهل مصر إلا لأنه كان يعلم جهودهم وجهادهم وأهمية دورهم في الحياة بإلهام من الله. فقد تصدت مصر للخطر الذي داهم العالم الاسلامي فردت التيار المعادي في عين جالوت, وحطمت الزحف العدواني في حطين, وقادت البطولات التي غيرت مجري التاريخ. لذا وجب علينا أن نصون مصر وأن نحرسها ونحميها حتي تظل جهودها مستمرة لأن رسالتها العالمية لا تخفي عبر التاريخ. لقد كان الإمام المعز بن عبد السلام سلطان العلماء بطل معركة عين جالوت, وكان للأزهر الشريف مواقفه البطولية في الكفاح الوطني وأثره في إثراء الثقافة الاسلامية, ونشرها في العالم كله. وكانت مصر لها هذه المكانة التاريخية علي هذا النحو فإن واجب أبنائها ألا يشقوا عصا الطاعة وألا يخالفوا الجماعة, وواجبهم أن يحرسوا هذا الوطن الغالي وألا يتنازعوا, وأن يجتهدوا في العمل والإنتاج والتنمية وأن يحرصوا علي وحدة الصف وجمع الكلمة حتي يحموا حماهم ويحققوا خيريتهم التي منحهم الله إياها. المزيد من مقالات د.احمد عمر هاشم