د. حمدي السكوت قدم الدكتور حمدي السكوت أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية في الجزء الأول من الدراسة قراءة في رواية نجيب محفوظ المثيرة للجدل أولاد حارتنا واليوم نقدم قراءة لرواية مهمة من إبداع محفوظ هي السمان والخريف. السمان والخريف رأينا أن كمال في غربته في الثلاثية كان فردا ضمن حشد من الشخصيات, متبايني المشارب والمذاهب والأعمار والسلوكيات, وقد صحبنا كمال نفسه, منذ الطفولة حتي المرحلة الجامعية, وكان إنسانا طبيعيا. ثم بدأت أزمته الفكرية فاختلف الوضع بالنسبة له, ولكن ظل سائر الشخصيات من حوله علي ما كانوا عليه حتي نهاية الثلاثية. أما أزمة عيسي الدباغ, بطل السمان والخريف, فإنها تسيطر علي الرواية من أولها إلي آخرها, وتجذبنا منذ الصفحات الأولي. ولنتذكر أولا أهم الأحداث التي سببت الأزمة: يوفد عيسي, السياسي الوفدي الواعد ومدير مكتب أحد الوزراء إلي مدينة الإسماعيلية,( إثر مجزرة رجال الشرطة في المدينة علي يد قوات الاحتلال, في الخامس والعشرين من يناير عام1952), لمعاينة ما حدث, وللنظر في احتياجات رجال المقاومة ضد معسكرات الاحتلال, من أسلحة وغيرها. ويعود عيسي صباح اليوم التالي للمجزرة, إلي القاهرة فيجدها تحترق, ولا يجد بالتالي أحدا في استقباله, وتتسارع الأحداث فتقال حكومة الوفد وينقل عيسي إلي قسم المحفوظات, وهو إجراء اعتاده من قبل. ولهذا يقرر هذه المرة أن يعني بشئونه الخاصة حتي تعود حكومة الوفد من جديد, فتتم خطبته إلي ابنة مستشار يمت إليه بصلة القرابة, وكان من رجال الملك. ثم تقوم ثورة يوليو ويخرج عيسي في التطهير, بعد أن اتهم بالفساد. وعلي إثر ذلك تفسخ خطبته, ثم تتزوج الخطيبة فيما بعد من حسن الدباغ, ابن عم عيسي, الذي كان أذكي وأكفأ وأشد ثقة بالنفس منه, والذي كان يحرص دائما علي مودة عيسي والأسرة بإخلاص, ولكن عيسي كان دائما يحقد عليه, ربما بسبب تفوقه عليه بهذه الصفات, كما كان يحتقره لسبب غير واضح! ثم تغير الوضع بعد الثورة, طرد عيسي من وظيفته, وأخذ حسن يترقي من منصب مهم إلي آخر, بعد أن اتضح أنه كان ممن يعملون سرا لقيام الثورة. ومع ذلك ظل علي إخلاصه لأسرة عمه وازداد حقد عيسي عليه وكراهيته له. تلك هي الأحداث التي تسببت في تدهور شخصية عيسي, وحولته من شخص ايجابي مكترث بكل قضايا الوطن, واثق من نفسه, مفعم بالحيوية وحب الحياة, إلي إنسان منفي, ينظر إلي الناس بغرابة كأنه يراهم لأول مرة. وهم غرباء لا يمتون إليه بسبب ولا يمت إليهم بسبب, وهو منفي في مدينته الكبيرة, مطارد بغير مطاردة, وعجب كيف انهارت الأرض تحت قدميه فجأة كأنها نفخة من تراب. والمهم أن كل حدث أسهم في اغتراب عيسي علي هذا النحو, لا يلخص لنا في ذكري عابرة, أو في شارة سريعة, كما كان الحال في معالجة الأزمة نفسها في الثلاثية, وإنما يعيشه عيسي بكل تفاصيله, ويعيشه معه القاريء اثناء حدوثه سواء في ذلك حفل خطوبته الفخم من ابنة المستشار, او التحقيق الذي اجري معه أمام لجنة التطهير وانتهي بطرده من الوظيفة, او فسخ خطوبته في اثر ذلك, او قراره بالهجرة الي الاسكندرية ووقع ذلك علي امه واخواته الثلاث, او بروز اهمية حسن, في كثرة وفود المسئولين لتعزيته في جنازة والدة عيسي, او علم عيسي في الجنازة بزواج حسن من خطيبته السابقة... الخ. ولا يتسع المجال لعرض نبذة ما دار في كل حدث. وسأكتفي في السطور الآتية باجتزاء بعض ما دار في لجنة التطهير: جلست اللجنة وراء مائدة خضراء واحتلت السكرتارية الجناح الأيمن, علي حين دعي هو للجلوس امام الاعضاء في الناحية المقابلة من المائدة, نقل بصره بين الوجوه ليعرف في ممثل مجلس الدولة زميلا قديما في لجنة الطلبة كاد يهلك معه في مظاهرة امام بيت الامة, فبل منظره ريقه اما باقي الأعين فنظرت اليه برزانة او انشغلت بالأضابير ولم يبد علي احد منهم انه زامله يوما, بالرغم من وجود مراقب المستخدمين ومدير الإدارة... وكان شخصه يهز كثيرين من اعضاء اللجنة, حتي وحزبه خارج الحكم. ثم طمأنه الرئيس إلي عدالة اللجنة, وأن غايتها المصلحة العامة لا الانتقام. وتليت عرائض الاتهام التي دارت حول المحسوبية والاستثناءات وتعيين العمد بالحزبية والهدايا, وتشتت في التكرار تركيزه وذاب.. ورغم الجهد المبذول للتركيز, اعترضته الذاكرة بصورة قديمة جدا مخضلة كأعشاب الطفولة اليانعة وهو عائد من ملعب كرة في الخلاء.. في يوم انهل مطره كالسيل فلم يجد ما يحتمي به... إلا أسفل عربة زبالة. وتساءل عن معني هذا كله. وسئل عن رأيه في الاتهامات فقال بحدة قاهرة: كلام فارغ, اريد دليلا واحدا, وسأله الرئيس: هل من سبب غير الحزبية يمكن ان يفسر لنا عزل وتعيين العمد؟ فقال... لتكن الحزبية هي السبب ألم تكن من مقومات حياتنا الماضية؟.. فتساءل الرجل.. والهدايا؟! فاندفع يقول بحدة: قلت إنه كلام فارغ, أريد دليلا واحدا. فتليت أسماء الشهود من العمد, والموظفين الذين عملوا معه علي فترات متتابعة, فأدلوا بأقوالهم, ثم عرضت عليه توقيعات بخط يده لترقيات استثنائية, ولخدمات في الري والزراعة... وبعضها يوصي بمجرمين ريفيين ممن تربطهم صلات الرعاية او القربي بنواب سابقين... واستمر التحقيق حتي الرابعة مساء, ثم غادر اللجنة كعود جاف مقصف اخترمته دودة عاتية! وفي صباح اليوم التالي استدعاه مراقب المستخدمين ليبلغه قرار إحالته إلي المعاش مع ضم سنتين إلي مدة خدمته. وهو نفس المراقب الذي كتب مذكرات ترقياته الاستثنائية التي توجت بترقيته إلي الدرجة الثانية. ولعله لا يزال الآن يحتفظ بالمذكرة الأخيرة التي كان قد أعدها لترقية عيسي الي الدرجة الأولي, لولا احتراق القاهرة وإقالة حكومة الوفد, أما حسن الدباغ, ابن عم عيسي وزميله في التخرج, فكان لا يزال آنئذ في الدرجة الخامسة, لأنه لم يكن ينتمي إلي أي حزب ومع ذلك فقد كان الوحيد( بعد أم عيسي), الذي تعاطف معه في الأزمة بصدق, وعمل جاهدا لك يقترب منه ويسعيان معا ليلتحق بعمل يخرجه من جو اليأس والكآبة, ويعيده إلي حياته الطبيعية لكن عيسي ظل يحتقره في عناد, كما كان يفعل في الماضي البعيد, ويسعي بدلا من ذلك لدي أحد باشوات الحزب الذين لم تشملهم المحاكمات والاعتقالات دون جدوي. وأما أصدقاء عيسي المقربين من زملائه في الحزب( وكانوا ثلاثة) فقد تألق إبراهيم, الصحفي, بقلمه, في مهاجمة الأحزاب والحزبية, ومن بينها الوفد طبعا! واستمر عباس في عمله, وكان أشد من عيسي نهما للهدايا, لكنه وجد في العهد الجديد من سانده, أما سمير فلم ينقذه من مصير كمصير عيسي إلا مشاركته البسيطة لخاله في تجارة الأثاث ثم التصوف. وجاء حسن( ابن عمه) يحثه مرة اخري علي العمل وسأله عن الحال فقال ألا تري أني أعيش كالأعيان؟ فلما عاود حسن الرجاء وعاونته الأم قال عيسي: إني أريد راحة طويلة, زهاء عامين أو أكثر....وبخاصة وأن الخطبة قد فسخت فسكت حسن وسأله عيسي باهتمام هل علمت بالخبر ؟ فرد بلهجة من يخوض الحديث مكرها: نعم في مقابلة عابرة من والدي سلوي. فقال عيسي بحدة: لقد أعطيته درسا لا ينسي.( فقال حسن:) استنتجت هذا...رغم أنه لم يشير إليه بكلمة,ولكن دعنا من ذلك....ثم حدجه بنظرة ودية وقال: ثمة مكان لك في شركة محترمة!.... شركة جديدة للإنتاج والتوزيع السينمائي, وقد اخترت أنا نائبا للمدير, ولكنا نحتاج إلي مدير حسابات كفء. وهللت الأم وشكرت حسن, لكن عيسي رفض بتصميم, وردد حسن بصره بينه وبين الأم الذاهلة, ثم قال في النهاية: ليست مجرد وظيفة ولكنها في الوقت نفسه فرصة للاندماج في الحياة...لكن عيسي أصر علي الرفض وسط ذهول الأم واستيائها, مما جعل عيسي يخبرها في انفعال بقراره بأنه سيخلي شقتهم في حي الدقي,( وبالتبعية ستنتقل الأم للعيش مع إحدي أخواته) ليهاجر هو إلي الاسكندرية. وكان للقرار وقع الصاعقة علي الأم والأخوات, وأصرت الأم هي الأخري أن تقيم بمفردها في بيتهم القديم بحي الوايلية الشعبي, بدلا من العيش مع إحدي الأخوات, وكن جميعا يرغبن في ذلك. أما عيسي فلندعه يحكي لنا عن مشاعره في مسكنه الجديد في حي الإبراهيمية, حي الجالية اليونانية بالاسكندرية: جميع ما يحيط بنا يعد براحة كالموت, ومن أضناه الألم خليق بأن يرحب بالمسكن وإن يكن سما...وها هو البحر يترامي في عظمة كونية حتي يغوص في الأفق....وكلما نظرت إلي الخارج رأيت الوجوه اليونانية في الشرفات والنوافذ وعلي قارعة الطريق, غريب في موطن الغرباء وتلك مزية الإبراهيمية...والمقهي المرصع طواره بالأشجار...والحوانيت الأنيقة تحفل بالوجوه اليونانية وتتردد في جنباتها لغتهم الأجنبية بعد زوال الموسم فيخيل إليك أنك هاجرت حقا, وتنهل من الغربة حتي السكر. وهؤلاء الأجانب..اليوم تحبهم أكثر من مواطنيك وتلتمس عندهم العزاء,إذ إن جميعكم غرباء في بلد غريب. ما بقي في حياة عيسي بعد ذلك ليس سوي أحداث عادية, قد يترك بعضها أثارا عاطفية لكنها, عادة, دورات عابرة. وحين تنتهي الرواية نجد عيسي, الذي يحاول الآن الإقلاع عن القمار, بعد أن مارسه لفترة ليست بالقصيرة,( بأموال الزوجة, التي تعرف عليها حين اشترت أمها بيتهم القديم بعد وفاة أمه.) وكان زواج مصلحة, سرعان ما انتهي بالملل وإدمان القمار. وكان يعالج القمار والملل بالتسكع ليلا في الطرقات وبين المقاهي ويتساءل: ولم يارب كان للحشرة دور, وللحجر دور, وأنا لادور لي؟!. وكثيرا ما كان يشاهد قبيل الفجر وهو يجلس تحت تمثال سعد زغلول