قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟).. قلنا:( بلي يا رسول الله).. قال:( الإشراك بالله, وعقوق الوالدين).. وكان متكئا فجلس, فقال:( ألا وقول الزور, وشهادة الزور).. فمازال يكررها, حتي قلنا:( ليته سكت)الشهادة بمنزلة الروح للحقوق, فالله أحيا النفوس بالأرواح الطاهرة, وأحيا الحقوق بالشهادة الصادقة. ولذا أمرنا الإسلام ألا نتخلف عن أداء الشهادة إذا ما دعينا إليها, فقال:( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا).. وجعل القائمين بشهاداتهم في عداد أهل البر والإحسان, فقال في الثناء عليهم:( والذين هم بشهاداتهم قائمون).. وحذر من كتمانها فقال:( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه, والله بما تعملون عليم).. وقد أثر عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في بيان خطورة كتمان الشهادة قوله:( شهادة الزور من أكبر الكبائر, وكتمانها كذلك). ويضيف القرآن الكريم بعدا آخر يتعلق بمن يؤدي الشهادة, وهو أنه يتعبد بها لله, فلا يجوز أن يصرفها لأحد آخر سواه, فيقول رب العز ة:( وأقيموا الشهادة لله). وإذا كان الأمر علي هذا النحو فلن تتغير شهادة المرء إذا كانت لقريب أو غريب, لعدو أو صديق, وإنما الهدف إحقاق الحق, وإقرار العدل, وإنصاف المظلوم. وإلي هذا المعني يشير القرآن الكريم في آيتين من كتاب الله: يقول الله تعالي في الآية الأولي:( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله, ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين).. ويقول في الآية الثانية:( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط, ولا يجر منكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوي). وإذا كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده, فإنه كان من الممكن الاكتفاء بهذه التوجيهات لضمان سلامة الشهادة من أي تزوير.. لكن تعاليم الإسلام أضافت إلي هذه التوجيهات تحذيرات شديدة من أية محاولة قد يلجأ إليها البعض لتزوير الحقائق, وتغيير الشهادة عما يجب أن تكون عليه. ولا أدل علي ذلك من أن النبي صلي الله عليه وسلم وهو يذكر أصحابه بأكبر الكبائر, حين جاء علي ذكر شهادة الزور وقول الزور, كان صلي الله عليه وسلم متكئا فجلس, وهذا يدل علي اهتمامه صلي الله عليه وسلم بالأمر, وزاد علي ذلك تكراره للتحذير من الزور, حتي قال الصحابة إشفاقا عليه ورحمة به ليته سكت. يقول الحافظ ابن حجر في تعليقه علي هذا الحديث:( وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا علي الناس, والتهاون بها أكثر, فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم, والعقوق يصرف عنه الطبع, وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة, كالعداوة والحسد وغيرها, فاحتيج للاهتمام بتعظيمه). وشهادة الزور خلق قبيح, سيئ الأثر, تضيع بسببه معالم العدل والإنصاف, وتعين الظالم علي ظلمه, وتعطي الحق لمن لا يستحقه, وبذلك تزرع الأحقاد والضغائن في القلوب, وتشيع الفوضي والاضطراب في المجتمع. يقول الإمام الذهبي في إشارة منه إلي بعض ما يقترفه شاهد الزور من آثام: شاهد الزور ارتكب عظائم: (أ) الكذب والافتراء (ب) ظلم الذي شهد عليه حتي أخذ بشهادته ماله وعرضه وروحه. (ج) ظلم الذي شهد له بأن ساق إليه المال الحرام, فأخذه بشهادته فوجبت له النار. (د) أباح ما حرمه الله وعصمه, من المال والدم والعرض. وإلي جانب ما ورد من تغليظ عقوبة شهادة الزور نجد أن سلف الأمة الصالح قد استعظموا أمرها وشددوا النكير علي تعاطيها. فقد ورد عن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قوله: عدلت شهادة الزور الشرك بالله, وقرأ الآية الكريمة:( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور). وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن قال: قدم رجل من العراق علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: جئتك لأمر ما له رأس ولا ذنب( ذيل), فقال عمر: وماذاك؟, قال: شهادة الزور ظهرت بأرضنا, قال: وقد كان ذلك؟, قال: نعم, فقال عمر رضي الله عنه: والله لا يؤسر( لا يحبس) رجل في الإسلام بغير العدول. ومما يؤسف له أن الأمر تطور في عصرنا هذا إلي أن بعض الناس ممن ضاعت مروءتهم, وضعفت ديانتهم يقفون بأبواب المحاكم مستعدين لشهادة الزور لقاء دراهم معدودة, ويشيعون بذلك الفساد في البلاد وبين العباد.. والضرب علي يد هؤلاء العابثين, ورد شهادتهم وعدم الاعتداد بها أمر واجب شرعا. وإذا كانت شهادة الزور محرمة علي النحو الذي أشرنا إليه فإن هناك أنواعا أخري من الزور لها من الخطورة ما لشهادة الزور وربما أكثر ولذا لم يكتف الحديث بتجريم شهادة الزور فقط, بل أضاف إليها: قول الزور. وقول الزور أعم والشهادة أخص, فقول الزور إذن يشمل الشهادة وغير الشهادة, والمقصود به وصف الشيء علي خلاف ما هو عليه, فهو لون من الكذب, وطريقة لإلباس الحق بالباطل, ولمظاهر قول الزور في حياتنا نضرب بعض الأمثلة, فمنها: (أ) الرشوة والتزوير في الاستفتاءات والانتخابات في المجالس النيابية والنقابات وغيرها, مجاملة لشخص أو حزب علي حساب آخرين أولي وأحق بالمكان. (ب) تزوير الشهادات العلمية, وإعطاء الطلاب درجات لا يستحقونها, فيتفوق الفاشل, ويضيع حق المجتهد. (ج) تزوير الأخبار المكتوبة أو المسموعة بواسطة الصحفيين والمذيعين, لتضليل الرأي العام, وإيهام الناس بغير الحقيقة. (د) تزوير الحقائق المتعلقة بالقضايا بواسطة المحامين, دفاعا عن الظالمين, وإضاعة لحق المظلومين, وكل ما يحمل في طياته خلاف الحقيقة, ويخبر بخلاف الواقع يعد تزويرا, ولو كان شيئا يسيرا. إن تعاليم الإسلام تستهدف إيجاد العبد الصالح, الذي يعرف حق الله عليه ممثلا في عبادات يؤديها من صلاة وصيام وغير ذلك, وفي ذات الوقت يتعامل مع الخلق برعاية حقوقهم, ونصر مظلومهم, وينأي بنفسه عن الغش لأمته, وقول الزور والعمل به بين عشيرته, وإلا فلافائدة من عبادته.. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم:( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).