لما اكتست مسألة النهضة في مصر مؤخرا بغلالات من الخداع والتسويف والوعود الانتخابية الزائفة, ويبقي دولاب الحكم علي ماكان عليه في نظام الحكم الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه وتبقي مصر بدون مشروع جاد للنهضة. يجدر بنا العودة لتجارب النهضة التي قامت في مصر والوطن العربي لاستخلاص الدروس والعبرات بينما نحن نفكر في مشروع جديد للنهضة بتنا في مسيس الحاجة له. لقد تخللت التاريخ الحديث التعس للمنطقة العربية محاولتان للنهضة في مصر تخطتا الحدود القطرية القائمة وقتها, وكان لهما أفق عربي أوسع, وأجهضتا في النهاية, أساسا علي أيدي قوي الهيمنة الخارجية ولكن لعيوب ذاتية أيضا, بعضها مشترك. ولو كان قيض لإحدي هاتين المحاولتين, أو كليهما, النجاح والاستمرارية لربما أمكن لمصر وللأمة العربية أن ترقي إلي مصاف الأمم المتقدمة أو علي الأقل تتفادي بعض الكوارث التي حلت بها. قاد محاولة النهضة الأولي, محمد علي باشا(1767-1849), والي مصر في ظل السلطنة العثمانية الذي تمرد علي سلطانه, الخليفة العثماني, وسعي لأن يبني إمبراطورية عصرية بمعايير عصره. وتزعم المحاولة الثانية, بقبول شعبي عارم من المحيط إلي الخليج, جمال عبد الناصر(1919-1970) زعيم القومية العربية المتفرد في العصر الحديث. وقد قاومت قوي الهيمنة العالمية المحاولتين بقوة, إلي حد شن الحروب الاجهاضية. وبينما قاد الزعيمان محاولات للتحديث علي النسق الغربي المتقدم مسيرة البشرية في عصريهما, تميز مشروع ناصر بأفق اجتماعي ينزع للعدالة في مصر, وبأبعاد تحررية في الوطن العربي وفي عموم العالم, من خلال حركة عدم الانحياز. ولكن كان مقتل المشروعين داخليا, هو في الاعتماد علي نخبة محدودة; في بعضها أجنبية في حالة محمد علي, ومن أهل الثقة في حالة جمال عبد الناصر, من دون بناء تنظيم سياسي مؤسسي, شعبي وديمقراطي, يمكن أن يتبني المشروع ويدافع عنه. وفوق ذلك بالغ محمد علي في الجباية لتمويل مشروعه التوسعي الذي قام علي إنشاء جيش ضخم وكفء وبحرية قادرة علي المنافسة في أعالي البحار, حتي أصبحت مؤسسته العسكرية قاطرة لنهضة متينة نازعت القوي العظمي في العالم وقتها. وعلي الرغم من تحقيق مشروع ناصر لإنجاز مشهود في تحسين مدي إشباع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعامة المصريين الذين طال حرمانهم, شاب عهده انتهاكات لاتغتفر للحقوق المدنية والسياسية. ولعل غياب الديمقراطية, وتسلط النظام الناصري, إضافة إلي تآمر القوي الرجعية في المنطقة متحالفة مع قوي الهيمنة العالمية, كانت من أهم أسباب انهيار الوحدة بين مصر وسورية, في العصر الحديث, خلال سنوات قليلة, علي الرغم من الشعبية الطاغية للزعيم في سورية, كما في عموم الوطن العربي. كما أمكن الانقلاب علي الناصرية في عقر دارها بواسطة رفيق ناصر ونائبه المختار, لا أحد غيره, الذي خلفه في الرئاسة في سنوات قليلة, موظفا أدوات النظام ذاتها وغالبية كوادره البشرية نفسها. بدأ محمد علي برنامجا ضخما للتحديث, علي النسق الأوروبي, في مصر, تمركز حول بناء جيش قوي, قاده ابنه إبراهيم باشا, القائد العسكري البارع والمظفر, وتوسع شرقا وجنوبا وشمالا. بعد غزو الحجاز ونجد(1818), غزت جيوش محمد علي السودان(1820), والشام(1833). وأوشكت أن تستولي علي عاصمة الخلافة العثمانية, الآستانة, مرتين(1833 و1839). ولم ينقذ السلطنة العثمانية من الانهيار تحت ضغوط جيوش مصر إلا تدخل روسيا وبريطانيا وفرنسا, القوي العظمي حينها, للحد من سطوة إمبراطورية محمد علي البازغة. فدمر أسطول محمد علي في موقعة نافارين, وأجبر لاحقا, في مؤتمر لندن(1840), علي الانسحاب إلي مصر علي أن تصبح ملكا وراثيا له ولنسله من بعده. وقاسي نظام عبد الناصر هوان الهزيمة الكاسحة واحتلال الأرض, علي أيدي إسرائيل, بمعونة ضخمة من الولاياتالمتحدة, في حرب الأيام الستة في منتصف العام.1967 وعلي الرغم من أن الزعيم كرس أيامه الأخيرة لقيادة حرب الاستنزاف ضد الاحتلال الإسرائيلي ولإعادة بناء القوات المسلحة المصرية وإعداد البلد لجولة تالية من الحرب, فلم يعش جمال عبد الناصر ليشهد الجيش الذي أعاد بناءه يباغت إسرائيل في حرب أكتوبر1973, محققا نصرا عسكريا مؤزرا, بالتعاون مع كثرة من البلدان العربية. بينما رفل خليفتاه في انتصار حرب أكتوبر, بالحق أو بالباطل. وحتي لا يتوهم أحد أن المقال يستهدف الترويج للناصرية عقيدة سياسية أو تجربة تاريخية لها مالها وعليها ما عليها, سنركز في باقي المقال علي تجربة محمد علي التي نقلت مصر فعلا إلي مصاف الدول الكبري في عصره وفي مدي زمني لا يتعدي أربعة عقود, قبل أن تتداعي. ومن حسن الطالع أن تجربة محمد علي بالغة الثراء وغنية بالدروس التي يمكن أن تستغل لبناء مشروع للنهضة حتي في العصر الحالي, ومرجعنا الأساس في ذلك هو المجلد القيم لعبد الرحمن الرافعي( عصر محمد علي, الطبعة الثالثة, مكتبة النهضة المصرية, القاهرة,1951) وأبدأ بالإشارة إلي منطق الأسرة العلوية في النهضة العربية كما عبر عنه ابراهيم باشا بن محمد علي الأكبر وقائد جيوشه المظفر ثم خليفته لفترة قصيرة, الذي كان يجاهر علنا بأنه ينوي إحياء القومية العربية. انظر ما قال الرافعي في هذا: وفي الراجح الذي تعززه الحوادث أن مشروع محمد علي كان يتناول انشاء دولة عربية مستقلة في مصر تضم إليها البلاد العربية في إفريقيا وآسيا. وفي إفريقيا قد استقل بمصر وفتح السودان, وفي آسيا قد فتح معظم جزيرة العرب وبسط عليها نفوذ الحكومة المصرية, وبطموحه إلي سورية اراد أن يؤسس الدولة المصرية الكبيرة. ويؤيد هذه الفكرة رجحانا بعض تصريحات فاه بها ابراهيم باشا, فقد ذكر المسيو كادلفين وبارو في كتابهما أنه بينما كان الحصار مضروبا علي( عكا) سئل ابراهيم باشاإلي أي مدي تصل فتوحاته إذا تم له الاستيلاء علي عكا فقال ما معناه إلي مدي ما اكلم الناس واتفاهم وإياهم باللسان العربي. وقد قابله البارون( بوالكونت) بالقرب من طرطوس بالأناضول سنة1823 بعد عودته من موقعة كوتاهيه وكان له معه حديث طويل, فذكر عنه أن ابراهيم باشا يجاهر علنا بأنه ينوي إحياء القومية العربية وإعطاء العرب حقوقهم وإسناد المناصب إليهم سواء في الإدارة أم في الجيش وأن يجعل منهم شعبا مستقلا ويشركهم في إدارة الشئون المالية, ويعودهم سلطة الحكم كما يحتملون تكاليفه. وتتجلي فكرته هذه في منشوراته ومخاطبته الجنود في الحرب الأخيرة بسورية, فإنه لا يفتأ يذكرهم بمفاخر الأمة العربية ومجدها التليد, ويتصل بهذا المعني مجاهرته بأن كل البلدان العربية يجب أن تنضم تحت لواء أبيه, وقد قال لي إن أباه يحكم مصر والسودان وسورية, ومن الواجب أن يضم العراق إلي حكمه وأن جزيرة العرب تابعة لأبيه الذي عمل الآن علي إتمام فتحها. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى