في ذكري الوحدة المصرية السورية د. بشير موسي نافع يصادف هذا الأسبوع الذكري الخمسين للوحدة المصرية السورية، إحدي أبرز المحطات في تاريخ الحركة القومية العربية. نصف قرن مر علي حدث الوحدة الذي ألهب عواطف وآمال جيل بأكمله من العرب، الحدث الذي انتهي سريعاً وفي شكل وأسلوب أصابا العرب جميعاً بقدر أكبر من خيبة الأمل والإحباط. ولكن لا إخفاق الوحدة المصرية السورية، ولا مرور السنين علي انطلاقة الحركة العربية؛ لا التجذر المستمر للدولة القطرية، ولا عودة الاستعمار المباشر إلي المجال العربي، ولا تزايد العقبات في طريق التضامن بين الدول العربية، أطاحت طموحات الوحدة لدي العرب. لم تكن الوحدة حدثاً متعجلاً كما قيل بعد ذلك لتفسير الانفصال. الحقيقة أن الوحدة المصرية - السورية جاءت نتاجاً لسياق طويل من الحركة العربية نحو الوحدة، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، وكان لدمشقوالقاهرة فيها دور بالغ الخصوصية. ولدت الفكرة العربية أولاً كحركة ثقافية في أوساط العلماء الإصلاحيين الإسلاميين العرب وتلاميذهم، الذين وصفوا أحياناً باسم السلفيين الجدد ، كما في أوساط مسيحية شامية ساهمت مساهمة بارزة في الإحياء العربي اللغوي الحديث. كلا الجماعتين حاولت الاستجابة للتحدي الغربي بطريقتها الخاصة. رأي الإصلاحيون الإسلاميون العرب أن إصلاح أحوال المسلمين لن يكون إلا بما صلح به أولهم، أي العودة إلي النص المؤسس وفتح باب الاجتهاد. ولأن لحظة التأسيس والصعود الإسلامي الأول كانت لحظة عربية، فقد حمل خطاب الإصلاحيين الإسلاميين نزعة عروبية واضحة. ومن جهة أخري، وجد المسيحيون العرب في الإحياء اللغوي وسيلة لتحقيق نهضة معرفية توازي النهوض المعرفي الأوروبي في القرن الثامن عشر، كما وجدوا فيه توكيداً علي المشترك الذي يجمعهم بأشقائهم من المسلمين العرب. والمدهش أن سورية، بمعناها الكبير، ومصر، كانتا مهد التيارين ومحلي تجليهما الأبلغ، حيث برزت أسماء مثل الأفغاني، عبده، رضا، القاسمي، طاهر الجزائري، البستاني، اليازجي، الشدياق، زيدان، رسمت الملامح الأساسية للحركة العربية الثقافية. منذ انقلاب جمعية الاتحاد والترقي علي السلطان عبد الحميد في 1908 1909، أخذت العروبة الثقافية في التحول إلي حركة سياسية، عبرت عن نفسها بعدد من الجمعيات السرية والعلنية، التي تأسست في دمشق واستنبول والقاهرة، من العربية الفتاة وجمعية العهد إلي حزب اللامركزية العثماني. نادي أغلب هذه الجمعيات بحقوق متساوية للعرب داخل نطاق الرابطة العثمانية، أو بدرجة من الحكم غير المركزي، وذلك في وقت أخذت النزعة التركية في السيطرة علي أوساط الحكم الجديد في العاصمة العثمانية. كان هذا التوجه طبيعياً، علي أية حال، فلم يكن من الممكن تصور قطيعة كاملة مع الرابطة العثمانية التي استمرت لتجمع المسلمين وغير المسلمين، من عرب وأتراك وأكراد وألبانيين، وغيرهم، منذ القرن السادس عشر علي الأقل. ولأن الحركة العربية في طورها السياسي كانت حركة رد فعل علي الأزمة العثمانية في عهد الدولة الأخير، ولأن مصر والمغرب العربي كانا آنذاك فعلياً خارج النطاق العثماني، لم يبرزا ضمن المطالب العربية، ولا هما شكلا جزءاً من مخيال الجماعة العربية السياسية. خلال سنوات الحرب الأولي، أطلقت الحركة العربية محاولتها الأولي لتحقيق الاستقلال، وبناء دولة عربية واحدة في المشرق؛ ولكن القوة العربية الحاملة للمشروع كانت أضعف من مواجهة التحالف البريطاني الفرنسي، الذي قسم الولايات العربية العثمانية السابقة إلي دول حديثة خاضعة لسيطرة فرنسية وبريطانية مباشرة. بيد أن من الضروري ملاحظة إنجازين كبيرين للحركة العربية في تلك الحقبة الحرجة. فقد استطاع عبد العزيز آل سعود خلال عقد العشرينات من القرن الماضي تحقيق وحدة معظم الجزيرة العربية، تضم نجد والحجاز وعسير والإحساء معاً. كما إن سنوات الحرب الأولي عززت موقع الفكرة العربية في العراق؛ وما أن وضعت الحرب نهاية للسلطنة العثمانية حتي برزت مصر باعتبارها المركز البديل لاسطنبول، بكل ما يحمله المركز من معني. شعور مصر بذاتها كقوة قائدة، وتحول مصر إلي حاضنة لعدد كبير من النشطين وأهل الفكر العروبيين، لعدد من الدوريات والجمعيات والهيئات ذات التوجه العروبي، والصلات الوثيقة والمتزايدة بين العروبيين المشرقيين وقيادات مصر الفكرية والسياسية، سرعان ما دفع مصر غير الرسمية إلي اعتناق الفكرة العربية. وما شهدته مصر، كان يأخذ طريقه إلي كافة بلدان المغرب العربي. أصبحت القاهرة مقراً هاماً لمساندة الثورتين السورية والفلسطينية، لمساندة نضالات المغاربة، من طرابلس إلي مراكش، من أجل الحرية، وإلي مقر للقاءات عربية جامعة، من مؤتمرات النساء العربيات إلي مؤتمرات البرلمانيين العرب والمسلمين. ولعل أول لقاء سياسي عربي رسمي كان ذلك الذي دعا إليه رئيس الوزراء المصري محمد محمود باشا في 1938 لتنسيق جهود ومواقف الدول العربية قبل الالتحاق بمؤتمر لندن الخاص بالقضية الفلسطينية. منذ مطلع الثلاثينات، وقادة العراق يطلقون مشروعاً للوحدة العربية واحدا تلو الآخر، بعد أن أصبح العراق قاعدة رئيسية للحركة العربية. بعض من دوافع التوجه الوحدوي للعراق الملكي تعلقت بطموحات الهاشميين، بعضها بالأزمة العراقية الجيوبوليتيكية، وبعضها بدوافع قومية أيديولوجية وضغوط عروبية خارجية. ولكن المساعي العراقية أخفقت علي صخرة معارضة الحلفاء البريطانيين وخشيتهم (وفرنسا بالطبع) من اجتياح مشروع الوحدة العربية للنفوذ الإمبريالي الأجنبي. وليس حتي سنوات الحرب الثانية الحرجة، لاسيما بعد قيام بريطانيا باحتلال العراق وسورية ولبنان، وفرض إرادتها علي الدولة المصرية في حادثة 4 شباط (فبراير) 1942 الشهيرة، أن عملت بريطانيا علي امتصاص الغضب العربي المتصاعد ضد سياساتها ووجودها في المنطقة بأن أبدت نصف تأييد لفكرة الجامعة العربية. وقد نجم عن مشروع الجامعة العربية، الذي كان نوري السعيد أول من تزعمه، نتيجتان جوهريتان: الأولي، كانت تفريغ المشروع من جوهره الوحدوي، ليتحول إلي منتدي للتنسيق بين دول ينص ميثاق الجامعة علي الحفاظ علي سيادتها واستقلالها؛ والثانية، كانت تسلم مصر قيادة المشروع من نوري سعيد، وتزعمها، للمرة الأولي علي مستوي رسمي، لفكرة أن العرب أمة واحدة. حتي منتصف الأربعينات، كان دعاة الفكرة العربية في مصر قادة أحزاب معارضة، مثل حسن البنا وأحمد حسين، رجال أعمال مثل صالح حرب، شخصيات من الأحزاب الرئيسية، ولكنها ليست من الدائرة القيادية، مثل محمد علي علوبة باشا وعبد الرحمن عزام. ولكن وقوف الملك وحكومة النحاس باشا خلف مشروع الجامعة العربية، حتي في صورته المخففة، كان مؤشراً نهائياً وقاطعاً علي أن الجدل الذي شهدته مصر بعد انهيار الرابطة العثمانية حول مسألة الهوية قد حسم لصالح العروبة، وحسم علي أعلي مستويات الدولة بعد أن كان قد أصبح التيار الأقوي في الأوساط السياسية والثقافية غير الرسمية. ولم يكن غريباً بالتالي أن تصبح القاهرة المقر الرئيسي للتحضيرات العربية للتعامل مع المشكلة الفلسطينية في نهاية 1947 و1948، وأن يكون الملك المصري من اتخذ قرار عبور الجيش المصري للحدود المصرية الفلسطينية مباشرة بعد نهاية الانسحاب البريطاني في منتصف ايار (مايو). الملك فاروق كان صاحب القرار، ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، كان من نفذ القرار الذي وضع أسس الالتزام المصري بفلسطين، وليس عبد الناصر أو السادات؛ ولعل في هذا إجابة علي الجدل الدائر اليوم حول التزامات مصر العربية. إذ حتي في عهد سيطرت بريطانيا علي جزء من القرار المصري، وتواجدت قواتها في قواعد علي الأرض المصرية، وتربع علي رأس الدولة ملك لم يكن بالضرورة جديراً بحكم مصر، كانت ثوابت مصر وشروط وجودها الاستراتيجية واضحة لرجال الحكم والدولة. منذ ولدت الدولة العبرية أصبح واضحاً في القاهرة أنها تواجه تهديداً هائلاً علي حدودها الشرقية، ليس فقط لما أظهرته الدولة العبرية من نزعة عدوانية وتوسعية، ولكن أيضاً لأن طريق مصر إلي الشرق قد أغلق. وليس ثمة شك أن عبد الناصر، المدرس السابق في الكلية الحربية والمقاتل السابق في حرب فلسطين، رأي في مشروع الوحدة مع سورية إجابة ولو جزئية علي العقبة والتهديد الاستراتيجيين اللذين مثلتهما الدولة العبرية. كان مشروع الوحدة في أصله مشروعاً سورياً، ولد في دوائر سياسية وعسكرية سورية في وقت لم تعد الطبقة السياسية والعسكرية السورية متيقنة من قدرتها علي التخلص من عوامل التأزم الداخلي ومن المخاطر الخارجية المحيطة علي السواء. وليس في ذلك، علي أية حال، ما يقلل من مصداقية التوجه الوحدوي للسوريين الذين طرحوا المشروع، فكل مشاريع الوحدة القومية في التاريخ الحديث ولدت من رحم الحروب ولحظات التأزم. مؤسسة الدولة الحديثة هي مؤسسة حكم وسيطرة مركزية علي الأرض والشعب، وهي مؤسسة ذات نزعة موروثة لتوليد طبقتها الحاكمة، والحفاظ علي كينونة الدولة وامتيازات الحكم هو شرط أولي في تكوين هذه الطبقة. مشروع الوحدة، في المقابل، يتطلب إرادة تحرر نافذة من هذا الارتباط الشرطي بين وجود الدولة ووجود الطبقة الحاكمة. مثل هذا التحرر يتطلب قدراً هائلاً من التسامي والمثالية، مما لا يتوفر في عدد كبير من البشر، والسياسيين منهم علي وجه الخصوص، أو تبلور ظروف موضوعية ضاغطة، تقدم الحفاظ علي المصالح الكبري للأمم علي المصالح المحدودة للدولة القطرية. لم تكن الوحدة المصرية السورية تطوراً مرحباً به في العواصمالغربية الرئيسية وفي عدد من الدول العربية. وكما وقعت مصر الجمهورية، في عصورها الثلاثة، أسيرة رؤية سلطوية بالغة للحكم، كذلك كانت السمة الغالبة إدارة دولة الوحدة في سورية. أخطاء دولة الوحدة لم تكن لتبرر الانفصال، وبدون التدخلات الخارجية لم يكن للانفصال أن يقع. خلال العقود التالية، دهمت المنطقة العربية سلسلة من الأحداث العاصفة، من أربع حروب عربية إسرائيلية، عملية سلام مزقت الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية، حرب عربية عربية مدمرة، تحولات اقتصادية كبري ذات أثر سياسي واسع وعميق، إلي عودة القواعد العسكرية الغربية إلي الأرض العربية. ولكن حلم الوحدة لم يختف. الجامعة العربية لا تزال باقية تعمل، عدد من التجمعات العربية الإقليمية يحرز انجازات متفاوتة من التوحيد وكسر الجدر الفاصلة، ووحدة بين شطري اليمن. ولكن الأهم من ذلك كله أن المئات الثلاثة من ملايين العرب لم يشعروا بوجودهم كأمة كما يشعرون اليوم، وأكثريتهم تشاهد نشرة أخبار واحدة، وتقرأ الصحف نفسها، وتزور مواقع الإنترنت نفسها؛ ومثقفوهم يناقشون الكتب نفسها وتوحد وعيهم الجمعي القضايا الفكرية نفسها. وعلي نحو من الأنحاء، ربما، يعاني أغلب العرب من ضيق أفق الدولة القطرية نفسها، كذلك. عن صحيفة القدس العربي 21/2/2008