يحق للمسلمين الأجانب الذين دخلوا في الإسلام عن وعي ودراسة واقتناع أن يندهشوا من الربط المجحف ما بين الإسلام والإرهاب, ويجدوه مناف للعقل والضمير, لأن ما أقنعهم بالإسلام عمق إنسانيته وانفتاحه علي البشر جميعا, ووجدوه ناموسا عظيما للحياتين الدنيوية والآخروية. ومن هذه النماذج العديدة التي نقرأ ونسمع عنها, ريتشارد فيرلي كبير مفتش فرقة مكافحة الإرهاب البريطانية, الذي يحبط من النظرة النمطية في الغرب عن الإسلام الذي دخله بعد سنوات من الدراسة والفهم, ومن روعة الإسلام أن مكنه بأن يحافظ علي كل روابطه الاجتماعية بكل حب واحترام, رغم اختلاف العقائد, الموقف نفسه اتخذته سيدة أوروبية تحكي سبب اقتناعها بالدين الإسلامي أنها أصبحت تتعامل مع الآخرين حسب جوهر الإنسان لا حسب مظهره, ولا شكله ولا جنسه, فنزعت عن نفسها الأحقاد والصور المسبقة الثقيلة علي النفس, وأصبحت أكثر حرية! ولكنها مازالت تتساءل عن سبب مشكلات المرأة في العالم الإسلامي حتي تبدو, وكأنها مشكلة العالم الإسلامي, والمرأة وإن وجب تكريمها واحترامها في كل مكان وزمان, فإن الإسلام أخلق بذلك! فهناك مجتمعات إسلامية تحرمها من العلم والاختلاط في العمل والدراسة والمحاضرات العامة, ويفرض عليها الزواج والزي الواجب ارتداؤه, بل هناك ملابس ممنوع ارتداؤها, كمشدات الصدر حتي لا تخدع الرجال أنها صغيرة السن! مما يذكرني بالمثل القديم جدا, والمناسب جدا, وهو هزار الحمير كله عض ورفس.. فما بالك بجدها! فالدارس للإسلام نظريا يندهش عندما يري تطبيقاته في بعض المجتمعات الإسلامية عمليا, ويستغرب من اتخاذهم كصورة نمطية للإسلام يتم الترويج بها علي أنها هي الإسلام, فتبدأ معاناة البحث عن فصل المقال, فيما بين النص والواقع من عدم اتصال, ومثل كل الظواهر الاجتماعية, فإن عوامل تشكيل الواقع متعددة الأبعاد والمستويات, ولعل أبرزها أن المجتمعات النامية وأغلبها إسلامية كانت مطمعا لعقود طويلة للأطماع الاستعمارية, وعند الحديث عن المصلحة الحيوية للأمم نحو تقدمها, فهي اللحظات التي يتجلي فيها عنف التاريخ من حروب ومكائد ودمار تخبو فيه نهضة أو حضارة لتظهر أخري. ومما يعتبر مجافاة للموضوعية والحقيقة ربط الإسلام كدين ارتبط اسمه بالحضارة, فلم نعرف حضارة تم تسميتها باسم دين إلا الحضارة الإسلامية, بواقع المجتمعات التي تتبناه, فهذه المجتمعات مختلفة, ولذا نجد نماذج للإسلام بالمجتمعات الإسلامية مختلفة, وأحيانا متعارضة لاختلاف ثقافة وتطور هذه المجتمعات, فتتبني الإسلام بقدرتها علي فهمه, وقدرة نخبها الاجتماعية علي تطبيقه, فعوامل تبلور البني الاجتماعية وقدرتها علي الفعل يدخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية, وحركة التاريخ الداخلية والدولية, لذا نجد الإسلام في الصومال غيره في تركيا, وفي ماليزيا غيره في بنجلاديش, وفي مصر غير السعودية... إلخ, فإن حسن الإسلام بقيمة الأحوال العامة فإنه لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم. لذا يجب قبل أن نندهش من أحوال المسلمين وننسبها للإسلام, علينا أن ننظر أولا إلي الثقافة الاجتماعية التي تحكم تكوين المجتمعات, وتطغي علي التفكير والتصرفات, فالثقافة هي الطاغية الذي يحكم تصرفات وأفكار الناس, وليس الدين, لأن الثقافة ليست الدين, ولكنها تأخذ من الدين ما يقوي حججها ويوطد فعاليتها, وهي أيضا ليست العلم, ولا المعرفة, ولا الحضارة, ولا الفن, ولكن الثقافة كما يعرفها أستاذنا الكبير عالم الاجتماع محمد الجوهري هي مضامين الوعي والأحاسيس والتصورات التي تحكم الجماعة, وتتوارث من جيل لجيل ضمنيا, وتلقي بسطوتها علي الجميع جاهلا ومتعلما, كما نري علي سبيل المثال تمسك متعلمين بعادة الثأر, أو الموقف من المرأة, أو الاحتكار الاقتصادي الاقطاعي أو الرأسمالي, وهي أمور لا تمت للإسلام بصلة, وربما تكون خارجة علي الإسلام عند المدققيين, فلو رأينا الأفلام المسيئة للإسلام التي ظهرت في الغرب مثل خضوع للكاتبة الصومالية إيان هرس علي ومخرجه يتوفان جوخ الذي راح ضحية عمله, أو فتنه للمخرج الهولندي جيرت فيلدرز, أو مقابلة مع محمد للمخرج الهولندي من أصل إيراني إحسان حاجي, نجدها جميعا تخلط ما بين الثقافة الاجتماعية وبين الإسلام, والذي جاء الإسلام, فيما أتصور لترقيتها, ونشر العدل ورفع الظلم عن الناس, فكل نضال من أجل نظام اقتصادي عادل أو عدالة اجتماعية أو حريات سياسية ومساواة, فهو نضال ديني إسلامي في الصميم, دون أن يرفع شعارات دينية, بل إن الفئات المستفيدة من الاحتكار للسلطة والثروة, وقهر المرأة, ترفع شعارات دينية بلا حياء, وتقوي ثقافة متخلفة لتنعش مصالح حالية, وعندما قال محمد عبده عن الغرب: رأيت مسلمين بلا إسلام.. لأنه رأي الأهداف الإسلامية تتحقق في مجتمع استطاع تطوير الثقافة العامة بعد صراع طويل اقتصادي وسياسي وحقوقي. الثقافة العامة خلاصة علاقات اجتماعية لها جذور عميقة في الوعي العام, وتصورات تقليدية, وعادات قوية, هي واقع شديد القوة والسيطرة والاستبداد بالمجتمع وأفراده, وتأثيرها يختلف معدله ليس من بلد لآخر, ولكن من الريف للحضر, ومن الجنوب للشمال في البلد نفسه, ولكن لا ينجو من سطوتها كائن من كان, فهذه الثقافة الاجتماعية تخلق معيارا ثقافيا أقوي من كل قانون أو معرفة عقلانية, فمن السهل أن تجد متعلما يقول معندناش بنات تتعلم وآخر يقول تشتغل, أو حتي تخرج من البيت, ولم يفلت الفنان عادل إمام من استبداد المعيار الثقافي عندما قال معندناش بنات تشتغل في الفن! مع أن الفن أهدي إلينا واحدة كأم كلثوم التي تعتبر معيارا لوحدها!! فالثقافة العامة واقع شديد الوطأة لا يفلت من معاييره الثقافية الجاهزة أكثر العقلاء فطنة, لذا كانت مهمة المصلحين, في كل الأزمنة, تطوير هذا الواقع الثقافي, وامتد تأثيرهم خارج مجتمعاتهم المحدودة وأزمنتهم الغابرة, ومازالت تجاربهم بحلوها ومرها تستفيد منها, ومن سموها الأخلاقي والإنساني خاصة في المجتمعات النامية التي في أشد الحاجة إلي إصلاح غاندي ونهرو وجمال عبد الناصر, وغيرهم ممن واجهوا التحديات الداخلية والخارجية بصلابة وقوة لمصلحة تقدم مجتمعاتهم. إذن هناك فرق في أن تقع الفكرة الدينية علي عقول مفتوحة ومجتمعات منظمة, وبين أن تستثمر لتعميق التخلف والحفاظ علي الاحتكارات السياسية والاقتصادية داخليا وخارجيا, وللأسف يكون المعيار الثقافي سلاحا ماضيا في الحفاظ علي الازدواجية الاجتماعية بين القول والفعل, ولا عجب من انتشار أنماط بشرية غريبة, ولعل أطرفها شخصية الفنان عبد الفتاح القصري في أحد أفلامه عندما يقول: أنا كلمتي لا يمكن تنزل الأرض أبدا وهي في الحقيقة لم ترفع من الأرض أبدا!. المزيد من مقالات وفاء محمود