في ثمانينيات القرن الماضي قامت في مصر دعوة لحث الشعب علي الإسهام في سداد ديون مصر. وفي قاعة الإمام محمد عبده وقف وكيل الأزهر في حينها يرفض التبرع لسداد تلك الديون ويحث الناس في الوقت نفسه علي التبرع للفقراء والمعوزين. اختتم الرجل حديثه بأن الذين اقترضوا الديون ليسوا من اختياره ولم يستشيروه في أمر الاقتراض فعليهم أن يسددوا تلك الديون كما اقترضوها. وفشلت حملة التبرع لسداد ديون مصر. الحكمة السياسية التقليدية تقول إنه من الافضل للحكومة أن تكون ممثلة لمن تحكمهم. ولكن الحكومات التي يفترض أن تمثل شعوبها أغرقت بلادها في الديون. ففي اليونان وصل حجم الدين إلي ما نسبته 153% من إجمالي الناتج المحلي وفي إيطاليا 123% وفي أيرلندا 113% وفي البرتغال 112% وفي بريطانيا 88% وفي الولاياتالمتحدة 107%. أما في اليابان فقد وصل حجم الديون إلي 236% من إجمالي الناتج المحلي وهي النسبة الأعلي عالميا وهي تعادل ثلاثة أضعاف ماكان عليه حجم الديون اليابانية في أوائل التسعينيات. حجم الديون المستحقة علي دول الحكومات الديمقراطية ليس بكارثة ولكن المقلق لهذه الدول هو أن تراكم الديون بهذا الحجم يشير إلي خلل في أداء الحكومات الديمقراطية. هذا التعثر المالي في دول الغرب الديمقراطي فتح الأبواب لنقاش واسع حول مستقبل الحضارة الغربية ذاتها. ظهرت أصوات تقول إن القرون الخمسة الماضية التي تمكنت فيها أوروبا الغربية من سيادة العالم تكاد تبدأ رحلة النهاية. بدأت كثير من الأصوات هناك تتحدث عن الحاجة إلي عقد اجتماعي جديد مخالف للعقد الاجتماعي الشهير بين الحكام والمحكومين الذي ينسب إلي المفكر الفرنسي جان جاك روسو. وجد هؤلاء ضالتهم في كتابات إدموند بيرك المناهضة للثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر. فقد كان بيرك يري أن الاجتماع البشري هو بذاته عقد حقيقي. فالدولة شراكة ليس فقط بين الأحياء ولكنها شراكة بين ثلاثة أطراف: الأحياء والأموات وكذلك الذين لم يولدوا بعد. هذه العبارة الأخيرة لفتت الأنظار بشدة إلي عبء الديون الحالية علي الأجيال القادمة. فالديون الحالية سمحت للجيل الحالي من الناخبين الأوروبيين أن يعيشوا ويستمتعوا بمستويات معيشية مرتفعة علي حساب الأطفال والفتيان ممن ليس لهم حق التصويت وعلي حساب أجيال لم تولد بعد. ومهما يكن مدي الجدال الدائر في الغرب الديمقراطي الآن, فإن الحال في مصر مختلفة إلي حد بعيد. فالأجيال التي استدانت حكوماتها أكثر من تريليون ومائتي مليار جنيه لم يكن للبالغين منهم حق التصويت الحر لاختيار الحكومات التي أسرفت في القروض. كما أن هذه الأجيال من المصريين لم تعرف شيئا من ترف الحياة حتي تتحمل مسئولية سداد تلك القروض. فلا هي وجدت تعليما أو رعاية صحية أو وظائف حقيقية أو حتي بيئة نصف نظيفة تليق بالأحياء في القرن الحادي والعشرين. تضخمت هذه القروض بتضخم الخلل في النظام السياسي المصري. فقد مات عبد الناصر عن دين خارجي قدره 1.7 مليار دولار وحينما قتل السادات كان الدين الخارجي قد بلغ 21 مليار دولار. وبعد سبع سنوات فقط من حكم مبارك كان الدين الخارجي قد اقترب من 50 مليار دولار. وانتهي حكمه وديون مصر الداخلية والخارجية قد تجاوزت التريليون وربع التريليون. هذه الديون مرشحة للمزيد من التضخم إذا استمر العوار في نظامنا السياسي. قدرنا أن نتحمل نحن وصغارنا وأجيالنا التي لم تولد بعد عبء سداد تلك القروض فلا مفر من ذلك. ولكن هذا الجيل من المصريين مسئول عن إصلاح العوار في نظامنا السياسي حتي لانقع في تلك الدائرة الخبيثة مرة أخري. فإذا كنا قد أورثنا أجيالنا القادمة عبئا اقتصاديا ثقيلا فلا أقل من أن يرثوا عنا نظاما سياسيا عفيا وقويا وصحيحا. كانت الآمال معقودة علي دستور جديد يصلح عوار حياتنا السياسية ويفتح أمامنا المزيد من الفرص الاقتصادية. ولكن أزمة الدستور طالت ويبدو أنها ستطول أكثر. الحقيقة الغائبة في جهود صياغة الدستور هي أن الحريات السياسية هي مفتاح النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية الحقيقية وإطلاق طاقات الإبداع لدي المصريين. الحريات السياسية كفيلة بتنقية الشخصية المصرية من العوالق التاريخية والمعاصرة التي أعاقتها كثيرا وطويلا. هي وحدها كفيلة بإنهاء حالة العصيان المدني الراهنة في المرور والبناء والتعليم والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. كنا نعتقد وقد تخلصنا من نظام مستبد أننا نكاد أن نلحق بقطار الأحرار. فقد كانت الحرية المطلب الأول لمن خرجوا وأسقطوا النظام السابق. ولكن أبواب العربة الأخيرة من القطار لاتزال مغلقة إلا قليلا. لايزال البعض يتحفظ علي الحريات ويعيد إنتاج نفس الحجج التي استخدمها الطغاة من قبل. يسوقون أمثلة شاذة ومتطرفة علي مساوئ الحرية ويتناسون عن عمد كيف يمكن للحرية أن تنهض بالأمة في مختلف جوانبها. في غابر الأزمان كانت أوروبا أقل شأنا منا ولكن رياح الحرية اقتلعت الملكيات المستبدة ومنحت الفرد الأوروبي الحقوق السياسية التي حولها إلي فرص اقتصادية في الوقت الذي استبد الحكام بنا بمقولات ليست من الإسلام في شيء فاستكان الفرد في بلاد المسلمين في انتظار عطايا الخلفاء والسلاطين في حوارات الجمعية التأسيسية حول الدستور انعكاسات للمجتمع الفئوي الذي ورثناه من النظام السابق. كل فئة تدافع عن وضعها في الدستور الجديد حتي أن نقيب الرياضيين وهو شيخ في السبعين من عمره ظهر علي شاشة التليفزيون يحتج علي عدم تمثيل الرياضيين في تلك الجمعية ومعه نقيب إحدي المهن الفنية وكأننا بحاجة إلي استاد القاهرة نعقد فيه اجتماعات اللجنة التأسيسية. وكل للمنافع باسم ليلي يري متصيدا نصب الشباك. الجميع في عراك فئوي تحت شعار مصلحة مصر فمن منكم يعرف أين هي مصلحة مصر فيما يجري الآن. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين