أشرف عبد الشافي : لم يعد في الإمكان الاحتفاء بذكري طه حسين, فقط, أصبح علينا أن نصد الهجوم عنه قدر الإمكان, هكذا قلت لنفسي أو قالت لي نفسي في صباح الثامن والعشرين من أكتوبر2012 حيث تمر ذكري رحيل العميد وسط حملات تكفير طالت رموز الثقافة والتنوير في المحروسة. وبين يدي مقال نادر للدكتور محمد عمارة ربما يكون شفيعا للرجل المتهم في دينه بشكل منظم يتصاعد يوما بعد يوم. قالوا له إنهم بمحاذاة' الحديبية' حيث نزل الرسول صلي الله عليه وسلم, وصحابته عام6 هجرية معتمرين فطلب من السائق أن يتوقف, ثم ترجل, وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمها, ثم تمتم ودموعه تنساب علي التراب:' والله إني لأشم رائحة محمد صلي الله عليه وسلم, في هذا التراب الطاهر'.. وعلي مدي نصف ساعة بذل مرافقوه جهدهم كله في تهدئة روعه, ثم واصل الركب سيره إلي مكةالمكرمة حتي دخلوا الحرم من باب' السلام' وتوجهوا نحو الكعبة'.. فاستلم. الحجر وقبله.. ولم يغادر مكانه, بل ظل يتنهد ويبكي ويقبل الحجر حتي وقفت مواكب المعتمرين انتظارا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه..'. هل تخيلت هذا الرجل الذي أضاء النور قلبه فنسي العالم واستغرق في بكاء ونحيب, هل نجحت في تحديد بعض ملامحه ؟!. عموما, هذا هو الأديب الكبير المكفوف طه حسين, والقصة البديعة للكاتب الإسلامي الكبير د.محمد عمارة في مقال رائع حكي فيه عن زيارة عميد الأدب العربي للبيت الحرام عام1955, بصحبة نخبة من أدباء مصر ومفكريها وعلي رأسهم العلامة الشيخ' أمين الخولي' الذي كان رفيق العميد في تلك الرحلة التي زار فيها' طه حسين' المملكة العربية السعودية بصفته رئيسا للجنة الثقافية للجامعة العربية وهناك وبعد أن ألقي العميد كلمة المؤتمر استقل سيارة بصحبة المفكر الكبير الشيخ' أمين الخولي' قاصدا بيت الله الحرام, وفي خطابه بالمؤتمر تحدث' طه حسين' عن مهبط الوحي ومشرق الإسلام, فقال:' سادتي.. لقد سبق لي أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاما, منذ بدأت أكتب علي هامش السيرة حتي الآن, ولما زرت مكة والمدينة أحسست أني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعا, عشت بعقلي الباطن وعقلي الواعي, استعدت كل ذكرياتي القديمة, ومنها ما هو من صميم التاريخ, ومنها ما هو من صميم العقيدة. وكانت الذكريات تختلط بواقعي, فتبدو حقائق حينا, ورموزا حينا, وكان الشعور بها يغمرني, ويملأ جوانح نفسي. فالآن أريد أن أقول لكم الحق كل الحق, الذي لا نصيب لسرف فيه من قريب أو بعيد: إن لكل مسلم وطنا, لا يستطيع أن يشك من ذلك شكا قويا أو ضعيفا, وطنه الذي نشأ فيه, وهذا الوطن المقدس الذي أنشأ أمته وكون عقله وقلبه وذوقه ومواطنه جميعا, هذا الوطن المقدس الذي هداه إلي الهدي, والذي يسره للخير, والذي عرفه نفسه, وجعله عضوا صالحا في هذا العالم الذي نعيش فيه. وأضاف عميد الأدب العربي:' أعترف أيها السادة بأني حين شرفني مجلس الجامعة العربية لاختياري مشاركا في اللجنة الثقافية للجامعة, ترددت في قبول هذا الشرف لأن فيه أعباء لا ينهض بها إلا ألوا العزم, ولكني لم أكد أسمع أن الدورة ستنعقد في هذا الوطن الكريم العزيز, حتي أقبلت غير متردد ولا محجم, بل أقبلت يدفعني هذا الشوق الطبيعي الذي تمتلئ به قلوب المسلمين جميعا, مهما تكن أوطانهم, ومهما تكن أطوارهم, فهذا الوطن العزيز الكريم وطن العروبة ووطن الإسلام لهذا الوطن أقدمت علي قبول هذا الشرف وأنا أستعين الله علي أن يتيح لي أن أنهض بأعبائه, وهي أعباء ثقال لا شك في ثقلها'. وكما يقول د.محمد عمارة في المقال المهم والنادر والذي يتم التعتيم عليه, فإن عميد الأدب العربي وبعد الفراغ من المؤتمر في جدة ركب السيارة وبصحبته الشيخ أمين الخولي قاصدين البيت الحرام بمكةالمكرمة لآداء العمرة, يقول د. عمارة:( وشهد مرافقوه طوال الطريق كيف كان الرجل طه حسين متنقلا بين تلاوة آيات من القرآن الكريم, وبين التلبية لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك, لبيك وكيف كان يقطع هذا الاستغراق ليسأل عن المكان الذي تمر به السيارة أو تحاذيه, ليعيش ذكريات تاريخ الإسلام) وعلي موقع جوجل عليك فقط أن تكتب اسم طه حسين لتجد مئات اللينكات التي تتهم العميد بالكفر والزندقة, ومن العجيب أننا نغفر للعرايا وننسي خطاياهن.. وقبلاتهن الساخنة, لكننا نستكثر علي هذا الرجل كلمة طيبة حتي في ذكري الرحيل التي مرت من دون احتفاء يليق بصاحبها!!, ليس مطلوبا من قساة القلب أن يحتفلوا بكتاباته ولا أن يقرأوا كتابا من مؤلفاته, وليس مطلوبا منهم الاعتراف بمعجزة هذا الضرير العظيم, فقط.. عليهم أن يتوقفوا عن اتهاماتهم الجارحة.