لم أصل إلي نهاية ثمانينيات القرن العشرين إلا وأنا غارقة تماما في فتنة وزهو وفوقية المتنبي, وحواري نجيب محفوظ وشخوصه الجالسة علي المقاهي أو المستندة علي ما تبقي من أسوار قاهرة الصقلي. كنت لا أدري ماذا أنا فاعلة بنفسي المحتشدة بالكلمات حتي اصطدمت اصطداما صاعقا ومدويا بشعراء جيل السبعينيات.. بدوا لي آنذاك أقوياء للغاية وأسطوريين يسيرون في الحياة الثقافية كما سرب أسود يزود بعضه عن بعض, وربما هذا ما جعلهم الأكثر جدارة بين كل الأجيال السابقة أو اللاحقة عليهم لحمل كلمة جيل, حتي بات من المتعارف عليه أنه بمجرد نطقها يتبادر إلي ذهننا.. جيل السبعينيات. كان ملمح من ملامح طوباويتي قبل أن ألتقيهم فكرتي عن الشاعر وتحديدا عن الشاعر.. رأيت في أحلام يقظتي المتنبي في بردة ذهبية مرصعة بالماس, ورأيت أبا نواس في عباءة فضية وإلي جوار حصانه الأدهم يعدو عدد من المماليك, ورأيت أمير الشعراء أحمد شوقي في بزة باريسية وهو يتلو بيت شعر علي أحد الملوك, ثم رأيت عبد المنعم رمضان وكان بسيطا كحصي الأرض الطيبة وراسخا مثل حجارة الأهرامات ومشعثا مثل فارس لم يحظ أبدا باستراحة محارب.. أخذ بيدي عبر دواوينه ودون أن يدري إلي آفاق أرحب وعرفني إلي الحلاج والنفري وابن عربي وآخرين, وصار منذ اللحظة الأولي وأيضا دون أن يدري واحد من الضمائر الكبري التي ستحكم أدائي الثقافي العام ومشروعي الإبداعي, أتابع مقالاته التي لم يكتبها بقلمه الشعري الفاتن فقط بل أيضا بسيف مسلول لا يخشي في الحق لومة لائم, وكنت عندما أصافحه بشكل عابر لا أجد ما أقول إلا: والنثر فضاح الشعراء أيها الشاعر الكبير. صدر للشاعر الكبير بحق عبد المنعم رمضان عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أحدث دواوينه بعنوان الحنين العاري, وكان علينا أن نذبح الذبائح منذ صدوره وحتي هذه اللحظة, لكن بعيدا عن شجون المشهد الثقافي والأدبي وبعيدا عن تبرير الصمت المواكب لصدور الديوان والذي قد يعزي إلي صعوبة الكتابة عن ديوان لشاعر كبير ومحاصرة المفردات الجمالية لقصيده, بعيدا عن هذا كله وأكثر سأحاول الاحتفاء هنا بالحنين العاري, والحنين العاري ينساب في هذا الديوان مترقرقا حاملا ذروات زبده مثل شلالات كبري لا نعرف لها منبعا ولا نهتم أن نراها وهي ترتاح في مصباتها, سيبدو الحنين كأنه عار بالفعل أحيانا: كأنك الأرض التي يسير فوقها الحمام كأنك الظلام كأنك الرياح من الوراء هكذا إلي الأمام. لكننا سرعان ما سنكتشف أننا قد خدعنا وأن الحنين كان طوال الوقت متدثرا بلآلئ شديدة الندرة والتفرد لم تر من قبل, وبرؤي الشاعر المتفجرة تمردا وثورة وعلما وثقافة ونضجا في محاصرة المجاز ونزع تقليديته وإعادة وضع تعريف جديد له يخص عبد المنعم رمضان وحده: سوف أسحب الموسيقي إلي الإسطبل وأعلقها من أقدامها الخلفية وبمشقة أحبسها. الحنين العري والذي بلغت صفحاته مائة وسبع وثمانين صفحة من القطع الكبير وبخط يد الشاعر نفسه ليس عاريا أبدا وإنما يتدثر طوال صفحات الديوان بقاموس لغوي ثري وشديد العذوبة وجديد علي آثار عبد المنعم رمضان الشعرية السابقة, وتكاد مفردات الديوان من فرط رقتها وشفافيتها تقترب ليس فقط إلي محاصرة العالم وكتابته بل إلي وضع هذا العالم في راحة كف الشاعر, وأنا هنا أستند إلي عنوان روية جيوكندا بيلي الكون في راحة الكف, فيصبح العالم في راحة كف الشاعر كرة كريستالية تسر له بأسرارها فيهدهدها تارة ويعنفها تارة أخري ويستنطقها أطوارا: لم يكن كافيا أن أري حافة الأرض ترتج ثم تفور وتخرج منها المدينة عارية وأصابعها العشر مشبوكة في السماء. لا أدري لماذا باغتتني قصيدة من قصائد الديوان بعنوان الديوان نفسه الحنين العاري! هل لأنني تمنيت أن يظل العنوان واحدا علي الغلاف ليقترب من واقعه فيصير عنوانا لقصيد شعري جديد وفادح الجمال كأنه إحدي معلقات القدامي؟! خصوصا والشاعر الكبير نفسه مدرك هذا بالطبع إدراكا لا يقبل التأويل, ففي أولي قصائده بعنوان بعد السقوط يستهل حنينه هكذا: أتبع الحنين الذي يوقفني قرب الهاوية الحنين الذي مثل كل ليلة يمتد وهو بالفعل يمتد أيها الشاعر الكبير طوال صفحات ديوانك الآسر الفاتن, يمتد عاريا ومتدثرا في الوقت نفسه بكل ما خبرنا من جمال الشعر حتي هذه اللحظة, هذا الحنين ممتد وأنت تتبعه ونحن نتبعك بالطبع لأننا غاوون.