إفساد الحياة السياسية لشعب بأكمله, بما يترتب عليها من قهر وإفقار للغالبية الساحقة, جريمة نكراء يتعين في تقديري أن تعامل معاملة الجرائم ضد الإنسانية, تستحق أقصي العقاب ولا تسقط بالتقادم, ولاتقتصر محاكمة مرتكبيها علي البلد الذي وقعت فيه. ولقد سام نظام الحكم التسلطي الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه في نهايات يناير 2010 الشعب المصري أبشع أشكال إفساد الحياة السياسية لعقود طويلة مخلفا وراءه تركة هائلة من القهر والفقر والظلم الاجتماعي تراكمت حتي لم يعد الشعب صبرا يطيق وانتفض آملا في نيل الغايات السامية التي صيغت في مطالب الثورة: الحرية والعدل و العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ومن أسف أن حكم المرحلة الانتقالية حرص علي إفلات المسئولين عن إفساد الحياة السياسية قبل الثورة من العقاب اللازم للقصاص العادل, ما أسهم في إفساد الحياة السياسية بعد الثورة. وقد نجم عن إفساد الحياة السياسية بعد الثورة حالة من الارتباك والتخبط التشريعي والسياسي بسبب تبني مسار الانتخابات قبل الدستور, انعكست في النهاية في الجدل والخلافات حول الجمعية التأسيسية ومشروع الدستور الذي تعده. وظهر كل ذلك جليا في جلبة قضائية وإعلامية صاخبة يشوبها الاستقطاب الشديد. وللأمانة, فالكاتب ممن انتقدوا باستمرار المسار السياسي الذي تمخض عن الجمعية التأسيسية الراهنة. لكن الحق يقال إن مسودة مشروع الدستور الحالية تبدو أفضل من أسوأ مخاوف القوي المدنية من الشطط الدستوري الذي كان يمكن أن ينتج من تحكم قوي الإسلام السياسي المتشدد في الجمعية التأسيسية. وإن دل هذا علي شيء فيدل علي أن قوي سياسية متباينة التوجهات تستغل القضاء والمنابر الإعلامية للترويج لمواقفها من محتوي الدستور, أو لشن معاركها السياسية حول الدستور التي كان يجب أن تدور داخل الجمعية التأسيسية ذاتها, ولكن حرمها منها أسلوب تكوين الجمعية التأسيسية, أو للتأثير علي الجمعية في اتجاهات تحقق مصالحها السياسية النفعية. بل وقعت بعض المنصات الإعلامية ذاتها فريسة لهذا التنافس السياسي المحموم. ودار كل ذلك بصرف النظر عن مضمون المشروع الذي أعدته الجمعية التأسيسية. ولكن هذا التنابذ الإعلامي لا ينهض بديلا لدراسة متأنية للمشروع القائم. ويقوم هذا المقال علي النظر في مسودة مشروع الدستور المؤرخة 24-10-2012 والمتاحة علي موقع الجمعية التأسيسية. والحق أن النظر المتأني يفضي إلي أن مشروع الدستور المعلن يحتوي علي كثير من عموميات, وأكرر عموميات, الحقوق والحريات ونظم الحكم السليمة التي يحرص عليها في الدولة المدنية الحديثة. ولكن هذا لايعني أن المشروع ينتصر بالكامل لغايات الثورة الشعبية العظيمة في الحكم الديمقراطي السليم و ضمان العدالة الاجتماعية و الكرامة الإنسانية للجميع علي أرض مصر, فما زال المشروع قاصرا عن هذه الغاية النبيلة من نواح أربع. وجه القصور الأول هو في الإحالة المتكررة بكثرة للقانون لتنظيم الحق أو الحرية أو تعيين شكل الحكم. وهذه أحد الأشكال المعروفة للتنصل من سمات الحكم الرشيد التي يلجأ لها نص مواد الدستور في نظم الحكم التسلطي. حيث يتحايل علي النص الدستوري بإحالة تنظيمه إلي القانون ثم يتكالب ترزية الدستور الأراذل علي تقييد الحق بحجة تنظيمه قانونيا بما ينتهي بتقييده أو حتي نقضه. مثل هذه المراوغة لا تنبئ عن خير. ولن يصلح مشروع الدستور نصيرا للثورة إلا بالتشديد علي عدم تقييد الحقوق والحريات وسمات الحكم الديمقراطي الصالح ولو بقوانين لاحقة. والدرس هنا أيضا للمواطن المصري, إن تمت الموافقة علي مشروع الدستور هذا هو تفهم أن مجلس الشعب القادم الذي سيصدر القوانين المشتقة من الدستور سيكون ربما أهم من الجمعية التأسيسية في ضبط البنية القانونية لحكم مصر بعد الثورة, وتحديد ما إذا كانت هذه البنية ستنتصر لغايات الثورة. وعليه فإن جموع المواطنين مدعوة لأن تولي أهمية قصوي لانتخابات المجلس النيابي القادم فلا تتوخي إلا مصلحة الوطن والشعب وتترفع, علي وجه الخصوص, عن سوءة الرشوة الانتخابية. أما وجه القصور الثاني, وهو أيضا بالغ الخطورة, فهو في منح رئيس الجمهورية سلطات ضخمة استبدادية الطابع تصنع طاغوتا ولو صلحت النوايا. فرئيس الجمهورية حسب المشروع يعين نائب الرئيس ورئيس الحكومة والمحافظين والنائب العام ورؤساء الأجهزة الرقابية وأعضاء المحكمة الدستورية العليا, ويرأس مجلس الدفاع الوطني, ويبرم المعاهدات الدولية. وكأن المشروع لم يع دروس تركيز السلطة في نظام الحكم التسلطي الذي قامت الثورة لإسقاطه. وكان الأوفق ديمقراطيا أن تشترك هيئات منتخبة في صلاحية التعيين في هذه المناصب الحساسة أو ينتخب المسئول مباشرة من عموم المواطنين مثل حالتي منصب نائب الرئيس والمحافظ. ووجه القصور الثالث هو في إعلاء القوات المسلحة فوق إرادة الشعب وممثليه حتي إن ميزانيتها لا تعرض علي ممثلي الشعب, ولو في لجان خاصة من المجلس النيابي واجتماعات سرية كما هو الحال في النظم الديمقراطية, وإنما ينظر فيها فقط مجلس الدفاع الوطني ونصف أعضائه تقريبا من العسكريين. كما تبقي المسودة مترددة حيال منع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري مهدرة بذلك حق المواطن المدني الأصيل في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي وتخضعه للقضاء العسكري الاستثنائي وغير المستقل, لخضوعه للإدارة العسكرية وهي فرع من السلطة التنفيذية. وتردد في الأيام السابقة أن المؤسسة العسكرية ترفض التنازل عن مساءلة المدنيين بحجج واهية. وإن تمت الموافقة علي محاكمة المدنيين عسكريا فقد يفتح هذا الباب للتجاوزات التي عاني منها شعب مصر خلال المرحلة الانتقالية تحت حكم المجلس الأعلي للقوات المسلحة. أما وجه القصور الرابع, وليس الأقل أهمية, فهو الأخطر في منظور العدالة الاجتماعية. فيتمثل في التقصد البادي لقهر النساء في المادة 68 التي تنص علي مساواة المرأة بالرجل دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية. وفي هذا زيادة في التشديد علي إمكان الإخلال بالمساواة بالمقارنة بالمادة الثانية التي تنص علي كون مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. فبلغ تشدد المشروع في استخدام قيد شرع الله أقسي حدوده وأغلظها في تقييد المساواة بين النساء والرجال, حيث قيدها بأحكام الشريعة وليس مبادئها, تلك الأحكام التي يمكن أن تتسع لتأويلات فقهاء التشدد والتي يمكن أن تفتح الباب لتأويلات فقهية رجعية ومتخلفة نجد لها تطبيقات فيما حولنا من دول تدعي الحكم بشرع الله. وكأن واضعي الدستور تحكمهم شهوة إخضاع النساء, شقائق الرجال وفق الحديث النبوي الكريم. إن أي مشروع دستور لا ينصف البنات والنساء إنصافا باتا من الظلم التاريخي الذي عانينه منذ عقود, بل قرون طويلة لا يستطيع الادعاء بالحرص علي العدالة الاجتماعية. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى