كتب:عبدالمنعم رمضان: كنت في جبلة بسوريا, وكان أدونيس صاحب دعوتي, قرأت علي ضيوفه قصيدتي( جنازة والت ويتمان), بعدها فوجئت بأحدهم يستوقفني ويلومني, ويكاد يصفني بصفات ويتمان, ويكاد يصف سعدي يوسف بمثلها. لأنه ترجمانه إلي العربية, قال الشاب, إن صاحبكما في منزلة, قلت: الصوفي, قال: منزلة الشاذ, حاولت أن أضحك, فهربت ضحكتي, اعترفت له بأنني صاحبت كفافيس ولوركا وأبا نواس,وأدمنت تنيسي وليامز, وتعقبت جان جينيه ويوكيوميشيما, وقرأت السماء الواقية لبول بولز, وتخيلت بازوليني, وعندما ركبت سفينة رامبو النشوانة, لمحت أقدام فيرلين, وهؤلاء, هؤلاء كلهم, يشبهون ويتمان, ودعت الشاب, ثم نسيته تماما, لكنني منذ شهرين, استضافتني جماعة( شعراء بلا حدود) الامريكية الإلكترونية, ونشرت قصيدتي الجنازة, فحلمت بأن أعقد حلفا مع ويتمان, وأقتحم معه آخر الحدود,وأغني للحيته التي تملؤها الفراشات, آنذاك أتتني رسالة تأمرني بضرورة الاعتذار عن تجنيدي لويتمان كعصفور يقود دبابة وينتهك بغداد, وتهددني بسوء العاقبة إذا لم أفعل, فتلجلجت, لولا أن الشاعرين حجازي ودرويش أعاناني بأقوالهما المأثورة عن شرف الكلمة, أقوالهما فقط, كما أعانني والت ويتمان نفسه, مواطن العالم, ابن مانهاتن, الفائر الشهواني الجسدي, قال لي: عندما تقرأ هذا الخطاب, أطلق النار علي آخر حارس للقاموس, واحترم أقوالك, وأنشد قصيدتك بزهو,فأنشدت:(( أخيرا علي طرف دبابة, يجلس والت ويتمان, أخيرا يتأمل شوارع بغداد, ويري الطيور الورقية, ويفكر كيف أقام البناءون قصر الخلافة, وكيف هدمته الطائرات, والت ويتمان لايخاف من الأنهار, لأنه سبق أن غرق فيها, والت ويتمان لايخاف من النخيل, لأنه سبق أن ترك نخلة تقترب وتكسوه, والت ويتمان لايخاف من عباءات النساء, ولا من العطور والروج وحمالات الصدر, لأنه لم يحب امرأة أبدا, الذين يصحبون والت ويتمان, سينصرفون قبل الغروب, الذين يصنعون الطعام لوالت ويتمان, يتمنون أن يكون نباتيا, الذين يكرهون قصائد والت ويتمان, يكتبون قصائد سرية, عن أفكار الروبوت, وعن عاداته, وقصائد أخري عن أنفاس الأدوية, وأناشيد الحطابين, وعرق النباتات, قابل لوركا والت ويتمان في كاتدرائية نيويورك, قابله قرب النافذة, وعلي البحيرة وأمام المذبح, قابله في البهو, قابله قبل فراره, قابل المتنبي والت ويتمان خلف تمثال الحرية, قابلت والت ويتمان وأنا أدمج, الفحم والطحلب والفاكهة والحبوب والجذور الصالحة للأكل, قابلته وأنا أرفع عن وجهي الغطاء الشفاف, بعضهم كان يحاول أن يقتل والت ويتمان, جبران طعنه بالصليب الخشبي, الحسين غرس في قلبه وردة ذابلة, وسبع شوكات, وسلحفاة, المهدية بنت المهدي ارتدت ثوبا أبيض, ارتدت قلنسوة, ورقصت فوق قبره, الأم العذراء مسحت فمها بعد أن قرأت أوراق العشب, الأم العذراء حضنت صورتها في مرآة اليد, وانتبهت إلي أصابع النوم تفرك البرك الصغيرة, والبيلسان, والأعشاب, المسيح تثاءب, المحظيات ينظرن إلي النادل الأخرس, المحظيات هن المحظيات, وعلي الرغم من المجد, وعلي الرغم من أغنية الذكري, لا أحد يقرأ العهد القديم, والت ويتمان فرد علي فخذيه نشيد الأنشاد, وأمر الكرادلة أن يغادروا المقبرة, الكل باطل وقبض ريح, والت ويتمان لم يعد وحيدا, والت ويتمان مازال يبحث عن محبوب يشبهه, شفتاه هكذا, عيناه هكذا, نحره, صدره, ساقاه, رجلاه هكذا, السناتور قال له: ابحث بين الطيارين, البابا قال له, ابحث بين الملائكة, الدركي قال: ابحث عن البدو, الروائيون نصحوه بالعودة إلي المسيسبي, أو السفر إلي طنجة, الجنود هتفوا في وجهه: أيها الشاعر, أيها الوحش, زوجة الآمر ابتسمت وأخرجت فمها من الصورة, وزير الدفاع أخبره أن الأرض واسعة سوداء, وأن السماء واسعة زرقاء, والت ويتمان لم يندهش, كان يعرف أن منزله في الأرض, أن بيته في السماء, والت ويتمان طلب أن تصحبه إلي كل مكان شجرة توت, أخيرا علي طرف دبابة يجلس والت ويتمان, أخيرا يتأمل شوارع بغداد, عندما يستريح ينظر إلي نفسه, وينظر إلي الشجرة, أحيانا لايري نفسه, أحيانا يري الشجرة ولدا بريا, أحيانا يراها أخته التوأم, أحيانا يراها السفينة العالية, والبرج العالي, والمشنقة العالية, والت ويتمان مازال يحلم, مازالت الشجرة شجرة, مازالت أصابعه بعيدة عن أزرار الكوابيس, والت ويتمان يتخلص من الشهور, أبريل مايو الخ الخ, يتخلص من الأيام, الأحد الإثنين الخ الخ, والت ويتمان يجلس القرفصاء أمام أبي نواس, يجلس القرفصاء أمام الرصافي, القرفصاء أمام الجواهري, لايسأل أبدا عن نازك الملائكة, يمر تحت تمثال السياب ولايتوقف, يتخلص من الساعات والدقائق والثواني, يصبح عاريا, يرتجف ولايجد الأوراق التي قرأها طوال عمره, يرتجف ولايجد الأسقف التي نام تحتها, يرتجف ولايختلس النظر إلي الضفاف الأخري, يرتجف ولايجد أحدا من أعدائه, والت ويتمان يتسلق شجرة التوت, يضع عنقه بين جذوعها, والت ويتمان يتدلي, ويخاف أن تضغط أصابعه زر الكوابيس, النجارون يعدون تابوتا لوالت ويتمان, الحفارون يبحثون عن مكان خال من الموت, يصلح لجثة والت ويتمان, الأطفال يفكرون في لعبة تساعد روحه علي الهدوء, المسيح يؤلف التراتيل الجامحة اليائسة, والشعراء يتلقون التعازي ويكتبون المرثيات, والشمس تبتئس وتغادر المكان, والليل بجسمه الثقيل يسقط علي الأرض, ويخلع نفسه عن الوقت, ويخلع بغداد عن جذورها, تتعفن جثة والت ويتمان بعد أن تخضر, تتعفن أثناء هبوط الأغاني من أفواه العذاري,قم من الموت يا ويتمان, قم من الموت ياوالت, مات والت ويتمان, أصبح طرف الدبابة التي كان يجلس عليها, أصبحت شوارع بغداد, أصبحت الطيور الورقية, أحذية سوداء, أضيق من أقدام الجنود, أضيق من البرد, والهواء يستطيع بالكاد أن يخشخش فيها, الهواء الضئيل مثل مواسير المجاري, ومواسير الغاز, والسماد الصناعي, ووالت ويتمان يتمدد علي الأرض الحمراء, ينظر إلي جثته بشعرها الملطخ, ينظر فترة طويلة, ويلحظ المكان الذي وقع فيه المسدس, والركن الذي برزت منه الكاميرا, وبقايا الصحراء, ثم يكمل موته, بلا أي استمتاع)).