في مقال سابق ذكرنا أن هاتين الآيتين تؤكدان علي ضرورة الاهتمام بقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وذلك لأن التعبير القرآني( إن هو إلا ذكر للعالمين) لا بد وأن يكون باللغة التي يفهمها جميع أهل الأرض. واللغة الوحيدة التي يفهمها كل الناس اليوم هي لغة العلم. والتعبير القرآني( ولتعلمن نبأه بعد حين) معناه أن جميع أهل الأرض سوف يعلمون صدق ما أخبر به القرآن الكريم من أمور الغيب ومن ركائز الدين بعد فترة من الزمن علي تنزل الوحي به. وانطلاقا من ذلك فإن هاتين الآيتين تثبتان حتمية الاهتمام بقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. وعلي الرغم من وضوح هذا الأمر الإلهي فإن عددا من المتغربين من أبناء المسلمين حاولوا التطاول بغير حق علي هذا المنهج, ظنا منهم أن العملية تتم بغير ضوابط علمية وشرعية صحيحة. وفي هذا المقال نكمل بقية الضوابط التي عرضناها في المقال السابق لعل أن يكون في ذلك ردا مفحما للمتطاولين علي قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم, وذلك في النقاط التالية: 11- التأكيد علي أن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا مغايرة كاملة, وأنها لا تحتاج هذه السنن الدنيوية الرتيبة, فهي كما وصفها ربنا سبحانه وتعالي أمر فجائي منه( بكن فيكون). 12- توظيف الحقائق العلمية القاطعة في الاستشهاد علي الإعجاز العلمي للآية, أو الآيات القرآنية الواردة في الموضوع الواحد, وذلك في جميع الآيات الكونية في كتاب الله فيما عدا قضايا الخلق والإفناء, والبعث,( بأبعادها الثلاثة المتعلقة بكل من الكون والحياة والإنسان), والتي يمكن فيها توظيف الآية أو الآيات القرآنية الكريمة للارتقاء بإحدي النظريات المطروحة إلي مقام الحقيقة, مع التأكيد علي أن الحقيقة العلمية لا تبطل مع الزمن, ولكنها قد تزداد تفصيلا وتوضيحا. 13- ضرورة التمييز بين المحقق لدلالة النص القرآني والناقل له مع مراعاة التخصص الدقيق في مراحل إثبات وجه الإعجاز العلمي في الآية القرآنية الكريمة( التحقيق العلمي) لأن هذا مجال تخصصي في أعلي مراحل التخصص, لا يجوز أن يخوض فيه كل خائض, كما لا يمكن لفرد واحد أن يغطي كل جوانب الإعجاز العلمي في أكثر من ألف آية قرآنية صريحة بالإضافة إلي آيات أخري عديدة تقترب دلالتها من الصراحة, خاصة أن هذه الآيات تغطي مساحة هائلة من العلوم المكتسبة تمتد من علم الأجنة إلي علم الفلك وما بينهما من مختلف مجالات العلوم والمعارف, ومن هنا كان من الواجب رد كل قضية إلي محققها من المتخصصين بوضوح وإثبات كاملين إلا في حالة العلماء الموسوعيين الذين من الله- تعالي- عليهم بشئ من ذلك الفضل. 14- التأكيد علي أن ما توصل إليه المحقق العلمي في فهم دلالة الآية الكريمة ليس منتهي الفهم لها; لأن القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا يخلق علي كثرة الرد. 15- اليقين بأن النص القرآني الكريم قد ينطبق علي حقيقة علمية ثابتة, ولكن ذلك لا ينفي مجازا مقصودا, كما أن الآية القرآنية الكريمة قد تأتي في مقام التشبيه أو المجاز, وتبقي صياغة الآية دقيقة دقة مطلقة من الناحية العلمية, وإن لم تكن هذه الناحية مقصودة لذاتها; لأن كلام الله الخالق هو الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 16- الأخذ في الاعتبار إمكانية البدء بآية قرآنية كريمة للوصول إلي حقيقة كونية لم يتوصل العلم المكتسب إلي شيء منها بعد, وذلك انطلاقا من الإيمان الكامل بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي حفظه لنا بطلاقة قدرته علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية في صفائه الرباني وإشراقا ته النورانية وتعهده سبحانه وتعالي بهذا الحفظ تعهدا مطلقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ولو وعي المسلمون هذه الحقيقة لسبقوا غيرهم من الأمم في الوصول إلي العديد من حقائق الوجود, وعلي الرغم من تخلف المسلمين المعاصر فإن الباب لا يزال مفتوحا أمامهم ليتسابق إليه المتسابقون من أهل العلم في كل مجال. 17- عدم التقليل من جهود العلماء السابقين في محاولاتهم المخلصة لفهم دلالة تلك الآيات الكونية في حدود المعلومات التي كانت متاحة لهم في زمانهم; وذلك لأن الآية الكونية الواردة في كتاب الله تتسع دلالتها مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد حتي يظل القرآن الكريم مهيمنا علي المعارف الإنسانية مهما اتسعت دوائرها, وهذا من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله. 18- ضرورة التفريق بين قضيتي الإعجاز العلمي والتفسير العلمي للقرآن الكريم, فالإعجاز العلمي يقصد به إثبات سبق القرآن الكريم بالإشارة إلي حقيقة من حقائق الكون, أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون, وفي زمن لم يكن لأي من البشر إمكانية الوصول إلي تلك الحقيقة عن طريق العلوم المكتسبة أبدا لعدم توافر أدوات ذلك. أما التفسير فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية, إن أصاب فيها المفسر فله أجران, وإن أخطأ فله أجر واحد0 وهنا يجب التأكيد علي أن الخطأ في التفسير ينسحب علي المفسر, ولا يمس جلال القرآن الكريم. وانطلاقا من ذلك فلابد من الحرص علي توظيف الحقائق العلمية القاطعة المتاحة والتي لا رجعة فيها في كل من القضيتين, ولكن لما كانت العلوم المكتسبة لم تصل بعد إلي الحقيقة في كل الأمور فإني لا أري حرجا من توظيف النظريات السائدة, المقبولة والمنطقية في التفسير العلمي للقرآن الكريم, أما الإعجاز العلمي فلا يجوز أن يوظف فيه ألا القطعي الثابت من الحقائق العلمية التي لا رجعة فيها. وتتعدد النظريات بتعدد خلفية واضعيها, ويبقي للمسلم نور من الله تعالي في آية قرآنية كريمة يمكن أن تعين العالم المسلم علي الارتقاء بإحدي هذه النظريات إلي مقام الحقيقة. 19- اليقين في صحة كل ما جاء بالقرآن المجيد; لأنه كلام الله الخالق, المحفوظ بحفظه علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية. وعلي ذلك فلا يمكن لحقيقة كونية أن تصطدم بنص قرآني أبدا; لأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, والكون صنعته وإبداعه وخلقه, ولكن إذا بدا شيء من ذلك فلابد من وجود خلل ما, إما في صياغة الحقيقة العلمية, أو في فهم الدارسين لدلالة النص القرآني. 20- يجب تحري الدقة المتناهية في التعامل مع كتاب الله, وإخلاص النية في ذلك, والتجرد له من كل غاية شخصية أو مكاسب مادية, كما يجب علي المشتغلين بدراسة القرآن الكريم أن يتذكروا قول المصطفي صلي الله عليه وسلم : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده في النار. ولعل في هذه الضوابط العلمية والشرعية والتي تفوق العشرين ضابطا ما يؤكد لكل ذي بصيرة علي صحة منهجنا في التعامل مع قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم, والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل. المزيد من مقالات د. زغلول النجار