الصراع علي الدستور هو أحد أبرز تجليات الانقسام السياسي والديني في المجتمع المصري, وهو الوجه الآخر للصراع علي الدولة وطبيعتها, وهل هي دولة دينية إسلامية أم دولة مدنية وفق التعبير الذائع والغامض والأحري دولة ديمقراطية دستورية حديثة ومعاصرة?. ومن ثم هذا الصراع يتمدد علي عديد المستويات ومنها: الصراع علي طبيعة النظام القانوني للدولة وأسلمته وتحويله من نظام قانوني وضعي يراعي القيم التشريعية الحداثية المعاصرة ومعاييرها علي اختلافها مع مراعاة المبادئ العامة والكلية للشريعة الإسلامية, ومن ثم الأعراف والتقاليد والعادات الوطنية علي تعددها المنطقي والديني والعرقي وهي الفلسفة التشريعية وسياساتها التي اتخذها المشرع المصري منذ استعارة القوانين الغربية الوضعية اللاتينية, ومع تجارب القضاء المختلط, ثم القضاء الوطني وحتي هذه اللحظة في تطور نظامنا القانوني والقضائي. في هذا الإطار لعب القضاة والمشرعون والفقهاء المصريون دورا محوريا في أقلمة القوانين الوضعية الغربية وتوظيفها في البيئة المصرية الثقافية والدينية والاجتماعية. ومن هنا يبدو الصراع دائرا علي الجسد التاريخي والاجتماعي والثقافي لهذه التجربة الفريدة والاستثنائية مع الهند خارج العالم القانوني اللاتيني والانجلو أمريكي من تجارب استعارة الهندسات القانونية الأوروبية والغربية في بيئة وسياقات سوسيو سياسية ودينية وثقافية مغايرة. إن مطالعة أولية للخطابات السياسية والدينية حول الدستور بين القوي السياسية ورجال الفقه الدستوري, والقانون والقضاء والمحامين عموما, تشير إلي بعض الملاحظات التالية: 1- ضعف الرؤية المقارنة مع الدساتير المرجعية الأوروأمريكية, وغيرها في البلدان الديمقراطية الكلاسيكية في بعض الدول التي كانت جزءا من العالم الثالث أو جنوب العالم كالهند. 2- غياب الدرس الأكاديمي للتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية السياسية الوطنية الحاملة للنظم الدستورية التي تحولت من النزعة والثقافة التسلطية إلي النظم الديمقراطية وثقافتها, من عديد الجوانب المؤسسية والفنية, والاجتماعية والثقافية, وتطبيقاتها في الدول التي انتقلت من الشمولية والتسلطية إلي ما بعدهما, ثم إلي الديمقراطيات كما في بلدان أوروبا الشرقية, وبعض بلدان أمريكا اللاتينية كالبرازيل, وشيلي والأرجنتين. 3- تراجع مستويات الجدل والحوار الفقهي الدستوري والسياسي والتاريخي المقارن مصريا عن نظائره في أثناء إعداد الدساتير المصرية في العهد شبه الليبرالي, وفي المراحل الجمهورية التسلطية, وهو ما انعكس سلبا علي عملية إعداد مسودتي الدستور واعدادهما والنقاش حولهما داخل اللجنة التأسيسية وخارجها, بالإضافة إلي ضعف مستوي الصياغة الفنية للنصوص وعدم انضباط وأحكام الصياغةtechniqueconstitutionelle من ناحية المعاني والدلالات, وغموضها وطابعها الفضفاضي والانشائي. وعدم تمييز لجان إعداد الدستور, ولجنة الصياغة بين صياغة النصوص الدستورية, التي تتسم بالوضوح في المعاني والدلالات والدقة والعمومية غير الغامضة, وبين نصوص القوانين واللوائح الإدارية التي تميل إلي التفصيلات والدقة, وعدم الميل إلي الطابع البلاغي والإنشائي في الصياغة الفنيةtechniquejuridique للقوانين واللوائح. 4- تراجع مستوي النصوص في مجال الحريات العامة والشخصية عن غيرها في الدساتير السابقة والالتفاف علي النصوص المقترحة بالإحالة إلي ضوابط عامة غامضة ومرنة وتشكل قيودا تصادر هذه الحريات بمقولة وضابط حاكم أن يكون تقرير هذه الحقوق الدستورية وتطبيقها شريطة ألا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية, أو علي نحو ما يحدده القانون, الأمر الذي يخضع الحقوق والحريات لسطوة السلطة الحاكمة من خلال الأغلبية البرلمانية, أو من خلال نظام القرار الجمهوري بقانون الذي يسمح لرئيس الجمهورية بإصدارها... إلخ. 5- تعدد مستويات الصياغة الفنية واللغوية من باب لآخر في مسودتي الدستور وغياب وحدة وروح لغوية محكمة في صياغة نصوص مشروع الدستور, وهو ما يكشف عن تعدد الأصوات واللغات داخل اللغة العربية الواحدة في أثناء وضع مشروع الدستور, وهو ما يعكس ضعف مستوي الصياغة وركاكة بعضها وترهله وانشائيته. 6- الطابع اللا متوازن في تشكيل اللجنة التأسيسية الأولي والثانية وغلبة التيار الإسلامي والموالين له في تشكيلهما. من ناحية أخري بعض أعضائها أصبحوا جزءا من التشكيلة الحكومية, أو يشغلون مواقع بيروقراطية عليا وبارزة, ومن ثم يعكسون الأغلبية الإخوانية والسلفية في مجلس الشعب الذي تم حله من المحكمة الدستورية العليا. 7- غياب أو ضعف الخبرة الدستورية والسياسية لدي بعض والأحري غالب أعضاء اللجنة التأسيسية المنتخبة الأولي والثانية, وهو ما انعكس سلبا في ضعف مستوي النقاش داخل اللجنة وخارجه, ومن ثم أثر علي المستوي الفني والسياسي للمسودتين. والأخطر غياب التكوين والخبرة والمعرفة السياسية لدي غالب أعضاء اللجنة التأسيسية, بالإضافة إلي غياب الوعي التاريخي بتطور الأنظمة الدستورية والقانونية والسياسية المصرية والمقارنة. 8- بروز اختلافات بين بعض ما اتفق عليه داخل اللجان, وبين بعض ما ظهر في المسودتين المطروحتين إعلاميا لمشروع الوثيقة الدستورية والبعض يري أن هناك ثلاثة مسودات- التي يتم إعدادها بين لجنة نظام الحكم ولجنة الصياغة حول اختصاصات رئيس الجمهورية التي يحاول بعضهم تحويلها إلي نظام رئاسي وليس اختصاصات رئيس الجمهورية في نظام مختلط. بالإضافة إلي رفض بعض السلفيين لنصوص يرون أنها ضد هوية الدولة. وهو ما دفع القوي السلفية لإعداد مليونية للدفاع عن الشريعة إزاء الإخوان المسلمين, والقوي الليبرالية والمدنية, وذلك لتعبئة الجماهير علي أساس ديني تمهيدا وإعدادا للانتخابات البرلمانية القادمة أساسا, وللاستفتاء علي الدستور. هذا التوجه للإعداد لمليونيات باسم تطبيق الشريعة الإسلامية والدفاع عنها أو حمايتها هو استراتيجية تعبوية منتجة للانقسامات الرأسية بين المواطنين علي أساس الدين وللحشد السياسي للقوي السلفية والإخوانية إزاء القوي الليبرالية, ومن السلفيين إزاء الإخوان نظرا لأن كليهما يتصارع ويتنافس علي ذات المرجعية الدينية, ومن الذي ينطق باسمها في السياسة والدعوة. 9- تكرار تمرير الإخوان والسلفيين لعديد المقترحات لجس نبض وردود أفعال التيارات السياسية الأخري, والرأي العام, ثم يتم سحب بعضها الذي توجه إليه انتقادات عنيفة وسرعان ما يتم التنكر لها من قبل بعض قادة جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة من أعضاء اللجنة التأسيسية المنتخبة الثانية. وللحديث بقية. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح