نواكشوط د. محمد سعيد محفوظ حين تزور نواكشوط للمرة الأولي, وتدهشك طبيعتها البدوية العذراء, وقلة سكانها رغم اتساع أراضيها, وانعدام الخدمات الأساسية في معظم أحيائها , وتعدد قومياتها المتعايشة في سلام, وإلحاق جميع أطفالها بالمحاظر( أي الكتاتيب) لحفظ القرآن, والتزام مواطنيها دون استثناء بأداء الصلوات في أوقاتها.. حين تري كل ذلك, سيكون آخر ما تتوقعه أن تقابل أشخاصا بمثل جنون وانطلاق وتفتح وإبداع عبد الرحمن أحمد سالم, وسالم دندو, ومحمد ولد إدوم, والسالمة بنت الشيخ الولي, ومريم عزيزة بنت الطالب... هؤلاء وغيرهم هم مؤسسو دار السينمائيين الموريتانيين عام2002, ورافعو لواء العشق والجنون السينمائي في بلاد الشنقيط التي تصل فيها نسبة الفقر إلي46%, والتي شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية في أقل من ثلاثين عاما, وتقف الآن علي أعتاب تغيير جديد لا يعلم أحد إلي أين سيقوده.. المعارك السياسية لم تشغل بال هذا الفريق كثيرا, فهم يخوضون معركة أصعب, العدو فيها هو ضعف الإمكانات والإهمال الحكومي.. يسعي هؤلاء المخلصون للفن السابع إلي التعريف بأهمية السينما في مجتمع تقليدي محافظ, بدأت بذور ليبراليته تثمر مؤخرا مع انتشار الأطباق اللاقطة علي أسطح المنازل, ووصول خدمة الإنترنت إلي النوادي والمقاهي والبيوت.. السينما في رأي فريق دار السينمائيين ليست فقط طريقة لحل المشكلات الاجتماعية المستعصية, بل أبداع يستفيد من الخيال الخصب لدي الشباب الدارس منذ طفولته للمعلقات الأدبية بثرائها اللغوي والبلاغي.. لذا لم يكن غريبا أن يجذب هذا الفريق العاشق للصورة عشرات من المشتغلين بالأدب والإعلام والتدوين.. تشكلت في الأعوام الخمسة الماضية شبكة منظمة واسعة النطاق, قوية الأواصر, ذات برامج وأهداف محددة من هذا الشباب الواعي, الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين, يلتقون بشكل دوري علي المقاهي( وبخاصة مقهي' التوانسة' الشهير بشارع كنيدي, والذي يشبه مقهي' ريش' في مصر) لتبادل الرأي والاستفادة من ضيوفهم ورموزهم.. قطاع كبير منهم انضم لورش التدريب علي صناعة الأفلام التي ينظمها دار السينمائيين, ومنها تلك الورشة التي شرفت بإدارتها هذا العام علي هامش الدورة السابعة من مهرجانهم السينمائي.. لم تكن هذه هي المرة الأولي التي ألبي فيها دعوة السينمائيين الموريتانيين لحضور مهرجانهم السنوي.. دعيت من قبل في دورته الرابعة عام2009 للانضمام إلي لجنة تحكيم مسابقة أفلام الهواة, إلي جانب عرض فيلمي( أي كلام) بعد نيله جائزة مهرجان الجزيرة ببضعة أشهر.. أما هذا العام فقد شرفت برئاسة لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوطنية, إضافة إلي ورشة التدريب علي كتابة السيناريو والإخراج التي أدرتها علي هامش المهرجان, والتحق بها ثلاثون من هواة السينما في موريتانيا, أصغرهم لم يزد عمره عن15 عاما, هو العبقري الصغير' ينجي محمد', الذي شارك أيضا في مسابقة الهواة بفيلم رعب متقن من إخراجه وإنتاج دار السينمائيين.. لم يشر إعلامنا مع الأسف إلي أن مصر فازت في مهرجان هذا العام بجائزة لجنة تحكيم المسابقة الدولية التي ترأسها المخرج الفرنسي فيليب أوتييه, عن الفيلم الروائي القصير والبديع( برد يناير) من إخراج الفنان روماني سعد, وقد تسلمت الجائزة نيابة عنه في حفل الختام, وسلمها لي السفير أحمد فاضل سفير مصر في نواكشوط.. بينما كنت أرتدي الزي الموريتاني' الدراعة' كي أؤكد أن مصر شريك في المشروع الثقافي الموريتاني, عامان يفصلان زيارتي الأولي لنواكشوط عن الثانية, تغير خلالهما اسم المهرجان من' أسبوع الفيلم الوطني' إلي' مهرجان نواكشوط الدولي للفيلم القصير', أي أن التنافس علي الجوائز لم يعد مقصورا علي الأفلام المحلية فقط, مما يعني أن المهرجان يبحث لنفسه عن موطئ قدم علي خريطة مهرجانات السينما العالمية.. كما ازداد خلال هذين العامين عدد محبي السينما والراغبين في تعلم قواعدها في أوساط الشباب الموريتاني, واتسع وتنوع نشاط دار السينمائيين, وتجلي ذلك في نوعية الأفلام التي ينتجها, والقضايا التي يعالجها, رغم تواضع ميزانياتها.. من الأفلام التي أشدنا بها في لجنة التحكيم( أنا وزميلي الإعلامي الموريتاني المرموق أبي ولد زيدان والفنان الاستعراضي الموريتاني مونزو) فيلمان جريئان, أحدهما بعنوان( المخنث) عن ظاهرة المثلية الجنسية في موريتانيا, والآخر عن العنف الجنسي ضد المرأة.. كل منهما تناول موضوعه بحكمة وحذر وذكاء دون أن يصطدم بالتقاليد المجتمعية.. السينما في موريتانيا تفتح أبوابا بقيت مغلقة لعقود, وأسقطت كثيرا من التابوهات التي ظهر للمجتمع حجمها الحقيقي بفعل تجسيدها سينمائيا, وطرحها لأول مرة للنقاش... ظهر المركز الثقافي المصري بنواكشوط في المشهد السينمائي والثقافي الموريتاني منذ عام واحد فقط, فتح أبوابه وقاعاته ومكتباته التي كانت مهملة قبل هذا التاريخ لشباب السينمائيين.. نظم لهم الندوات, وأهداهم الكتب المتخصصة, وشارك في ملتقياتهم الفكرية.. تحول الدكتور خالد غريب مدير المركز إلي شريك في هذا الجهد العصامي, الذي تعتبره الحكومة الموريتانية رفاهية يسهل الاستغناء عنها.. دعاني الدكتور خالد للمركز عصر أحد أيام المهرجان.. أتاح لي فرصة التجول بين الغرف والقاعات, وراح يصف لي كيف كانت وكيف أصبحت.. هو يعمل وحيدا, وأحيانا تتطوع السيدة الفاضلة زوجته لمساعدته في تنظيف الكتب القديمة وجردها وتصنيفها بحكم دراستها للآثار.. لكن الكتب المتراكمة بالمركز يصل عددها للآلاف, والمفاجأة الأكبر هي أن بحوزة المركز ما يزيد علي ألف شريط' في إتش إس' لروائع السينما المصرية, تم اقتناؤها علي مدار السنوات الثلاثين السابقة, وهي علي وشك التلف نتيجة سوء التخزين.. ولحسن الحظ فقد ساعدت علي إبرام اتفاق بين المركز ودار السينمائيين لنقل هذه الأفلام علي اسطوانات مدمجة' دي في دي' لحمايتها, في مقابل حصولهم علي نسخة منها إن أرادوا.. لكن يبقي الكنز الحقيقي المهمل هو اسطوانات جرامافون نادرة وجهاز فونوجراف لا ندري إن كان سليما أم تالفا, لأن الفنيين المتخصصين في إصلاحه بموريتانيا انتقلوا إلي رحمة الله!! هذا الكنز سيفني إذا لم تتحرك مصر لإنقاذه فورا.. المركز الثقافي المصري في نواكشوط يمثل أملا كبيرا لدار السينمائيين الموريتانيين.. لكنه لن يستطيع العمل دون أن ندعمه من مصر.. نحتاج لإمداده بسينما متنقلة كي يصل بها للقري والمناطق النائية.. نحتاج لإمداده بمكتبة أفلام عالمية لإثراء الذاكرة البصرية للسينمائيين الجدد في موريتانيا.. نحتاج لترميم مكتبته السمعية والبصرية القديمة.. كما نحتاج لدعم مهرجان نواكشوط كي يرقي لمستوي المهرجانات العالمية..المشروع الأضخم والأجدي والأعمق أثرا الذي يحتاجه السينمائيون في موريتانيا هو إنشاء فرع لمعهد السينما المصري بنواكشوط, تعتمد شهادته من أكاديمية الفنون.. ناقشت الفكرة مع الدكتور خالد غريب مدير المركز الثقافي المصري, فتعهد علي الفور بتوفير قاعات للدراسة وتجهيزها.. كما أن بإمكان قطاع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة برئاسة السيدة المحترمة الدكتورة كاميليا صبحي أن يوفر تذاكر سفر الأساتذة والمعلمين.. من الممكن أيضا تأهيل المسئولين بدار السينمائيين الموريتانيين للتدريس في المعهد, حيث أن معظمهم حاصل علي دبلومات في السينما من فرنسا.. ما يتبقي إذن هو إيمان أكاديمية الفنون المصرية بالفكرة, وموافقتها علي ندب عدد من أساتذتها للتدريس بالمعهد بالتناوب, واعتماد شهادات الخريجين.. وبذلك نكون قد وضعنا السينما الموريتانية علي أول طريق الاحتراف الحقيقي..