اكتسب تعبير الحوار سمعة إيجابية جعلته لصيقا بمفاهيم المرونة والانفتاح الفكري والحرية والديمقراطية, بحيث أصبح رفضه أو الانسحاب منه رذيلة منفرة; ومن ثم فقد أصبحت ممارسة الحوار مغرية حتي لمن لا يطيقون مرونة أو انفتاحا ولمن لا يعرف عنهم ميلا لحرية أو تحرر. ولذلك فإنهم يلجأون إلي اصطناع مواقف تتخذ شكل الحوار دون أن تتوافر لها أبسط شروطه; فكثيرا ما نشهد في حياتنا اليومية العديد من الأحاديث المطولة بين أب وأبنائه; أو بين مسئول ومعاونيه أو مرءوسيه, وقد تبدو تلك الأحاديث كما لو كانت حوارا حقيقيا حيث الأطراف جميعا تتبادل الحديث والإنصات ولكنها في حقيقة الأمر لا تتحاور بالفعل; بل يقوم الطرف الأقوي بإملاء أوامره علي الطرف الأضعف, ولا تكون الأحاديث في هذه الحالة إلا نوعا من محاولة إكساب ذلك الإملاء الكريه نكهة الحوار المقبولة والمحببة; مع الحرص دائما علي تذكير الطرف الأضعف بمحدودية قدراته وبأن مجرد القبول بالحديث معه يعد مكسبا ينبغي الحفاظ عليه. لقد فجرت ثورة يناير اهتماما غير مسبوق لدي العامة بالشأن السياسي, وأصبح الجميع يتحدثون في السياسة, وهو أمر إيجابي علي أي حال. ولكن ينبغي في خضم الترحيب بهذا الضجيج السياسي أن نميز بين تعبيرات ثلاثة مهمة و متمايزة: الحديث والحوار والتفاوض. إن نقل رسالة من مرسل إلي متلق أمر له قيمته دون شك, ولكن إذا ما تلقي المرء الرسالة ثم مضي في سبيله مقتنعا بما تلقاه أو غير مقتنع. ملتزما به أو غير ملتزم; فإن شيئا من ذلك لا يمكن أن يعتبر حوارا مهما كانت أهمية الرسالة من حيث المضمون. الحوار وسيلة لتفاعل الآراء والأفكار بين طرفين أو أكثر, وبصرف النظر عن نتيجته, فإن إفصاح كل طرف عن آرائه, وإصغاء الطرف الآخر له, و تبادل الرأي بين الطرفين يعد شرطا لازما لبداية حوار حقيقي. ولعل من يتأمل ما يجري حولنا هذه الأيام يتبين أننا نشهد أحيانا أطرافا تتحدث موجهة أحاديثها المنطوقة أو المكتوبة إلي الجمهور, و كثيرا ما يطلق البعض علي تلك الأحاديث المتوازية لفظ الحوار, وهي ليست من الحوار في شيء. وكثيرا ما نري جمعا يلتف حول مائدة يتصدرها مسئول كبير, فنصف ما يجري بأنه حوار; بل قد نمضي إلي ما هو أبعد فنصفه بأنه تفاوض بين الحضور والمسئول; في حين أن الأمر لا يعدو أن يكون استماعا متبادلا خلو من التفاعل. ثمة نوع آخر من الحوار الزائف يدور بين من يعرفون مقدما أنهم متفقون, ونشهد ذلك كثيرا علي شبكات التواصل الاجتماعي حيث يقوم الفرد باستضافة من يرغب في استضافتهم علي صفحته من الأصدقاء, ليس من شك في أن المرء يسعد حين تلقي أفكاره قبولا و ترحيبا, وربما يميل إلي تكرارها ليستمع من جديد لكلمات الموافقة والتقريظ, ومن الطبيعي إذا كان الأمر كذلك أن يسعي المرء لتبادل الحديث مع من يتفقون مع آرائه ليتبادلوا الإطراء والمدح ويزدادوا إعجابا بأنفسهم ويقينا بصواب أفكارهم. إننا لا نكون آنذاك حيال حوار بالمعني الصحيح و لكنه نوع من تبادل الحديث بين أفراد جماعة اختاروا بعضهم البعض, وتزداد جماعتهم انغلاقا علي أعضائها; فإذا ما واجهوا رأيا مخالفا أولوه ظهورهم متجاهلين; فإذا ارتفع الصوت المخالف قللوا من شأنه متعالين, فإذا ما ازداد صخبا انهالوا عليه وعلي أصحابه تجريحا و تشويها. التفاوض أمر مختلف تماما. إنه صورة متطورة من صور حل الصراع. فقد درج البشر منذ فجر البشرية علي إنهاء صراعاتهم بالقوة التي تشمل قوة البدن وقوة العدد وقوة الاقتصاد وقوة السلاح إلي غير ذلك, ولم تزل القوة تمثل حتي يومنا هذا عاملا مفضلا لإنهاء الصراعات سواء بين الأفراد, أو بين الجماعات. إلا أن البشر قد وضعوا أيديهم عبر تطورهم علي أساليب أخري لحل الصراعات, وعلي رأس هذه الأساليب أسلوب التفاوض. الذي يقوم علي توافر عدة شروط مجتمعة: أولا: أن يكون لدي الفرد أو الجماعة اقتناع حقيقي بأنه في حاجة للآخر لتحقيق هدفه, وإلا أصبح التفاوض شكليا استعراضيا زائفا. ثانيا: أن يكون في مقدور أحد الطرفين بالفعل تحقيق هدف الطرف الآخر أو مساعدته علي تحقيقه, وإلا فقد التفاوض معناه. ثالثا: أن يكون أحد الأطراف محجما عن تحقيق الهدف أو المساعدة علي تحقيقه, مراعاة لمعايير أخلاقية أو لمصالح اقتصادية,أو لتراث تاريخي, أو لعدم تبين طبيعة ما سيعود عليه من المساعدة أو لغير ذلك من الأسباب. رابعا: أن توافق الأطراف جميعا باقتناع علي موضوع التفاوض وجدواه. ولعل ذلك هو ما يميز أسلوب التفاوض عن أسلوب استخدام القوة أو المغالبة. خلاصة القول أن قدرا كبيرا من الضجيج الذي نشهده من حولنا مدعيا صفة الحوار أو التفاوض ليس من ذلك في شيء. الحوار الحقيقي حوار مع الآخر المختلف, وكذلك التفاوض الحقيقي يقوم علي الاقتناع المتبادل بين الأطراف بحاجتهم إلي بعضهم البعض. المزيد من مقالات د. قدري حفني