لا يبوح محتكرحديث أبدا بما أقدم عليه من تصرفات أو حيل أو عقده من اتفاقات لكي يسيطر علي سوق سلعة أو نشاط ما, بل يترك منافسيه يضربون أخماسا في أسداس وهم يفقدون مكانتهم في السوق أو ينزلقون خارجه. وقد لا تنقطع العلاقات الإنسانية بينه وبينهم, وربما تقوي علاقاتهم التجارية ولكن بترتيب آخر, فيه زعيم واضح ووكلاء صاغرون. من المنطقي في عالم الحضارة المادية أن تكون القوة العظمي الوحيدة هي أكبر اقتصاد في العالم. وجدت أمريكا نفسها في التسعينيات في وضع خطير بعد أن نقلت قاعدتها الصناعية كثيفة العمالة إلي الصين وجنوب آسيا. وأصبح للصين وللنمور الآسيوية قاعدة صناعية متزايدة القوة, كما تزايدت أكوام الدولارات لدي العالم بما ينذر بخطر انهيار قيمته, في حين ظهرت أمارات العافية علي عملة اليورو وتعالت الصيحات باستخدامه كعملة احتياطي عالمي مطبعته في ألمانيا وفرنسا بديلا للدولار. بل بدأ صدام حسين فعلا في استخدامه في بيع بترول العراق وخططت إيران لإنشاء بورصة بترول باليورو.وظهرت بوادر العافية علي روسيا مجددا. وهكذا عايشنا هجوما ماليا علي نمور آسيا, باستخدام مجموعة معقدة من المضاربات للاستحواذ علي الأوراق المالية والأسهم والسندات والمشتقات والنقد وغيرها في البورصات, ثم بيعها فجأة في خضم سيل متعمد من الدراسات والتصريحات عن عدم الثقة في اقتصاد تلك الدول. فهرعت المؤسسات المالية المحلية العامة والخاصة والأفراد للتخلص من أسهمهم وأرصدتهم من العملات قبل أن تنهار قيمتها, مما أدي إلي انهيار فوري لاقتصاد النمور. وعندها تدخلت المؤسسات المالية الغربية لشراء الثروات الوطنية بأثمان بخسة, وتقدم البنك الدولي وصندوق النقد بحزمة من برامج المساعدة مصممة لإخضاع النمور بالكامل للرأسمالية الدولية, وتم ترويض النمور الآسيوية. وتم اختلاق أحداث سبتمبر واستخدامها كمسوغ لإرسال الجنود إلي مناطق البترول وإلي تخوم الصين وروسيا وتدمير العراق ليكون عبرة لغيره. وأقيم معتقل جوانتنامو لإرسال رسالة إلي المسلمين تقول إن المتمردين علي النظام لن ينقذهم قانون أو عرف دولي أو اتفاقية إنسانية, ولن يهتم أحد بتوفير تهمة أومحاكمة لإرسالهم إلي ما وراء الشمس والبحار. ثم انهمكت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في إعداد أكبر ملعوب مالي في التاريخ. فبدأوا منذ عهد ريجان بإلغاء كل قوانين الرقابة علي الأسواق المالية وجعلها ذاتية التنظيم, ومكونة من تكتلات تضم مؤسسات متضاربة المصالح والأدوار. فتملكت البنوك شركات التأمين والمضاربة والسمسرة وسيطرت علي شركات التقييم المالي.ومع تزايد قوة وسرعة وترابط الحاسبات العملاقة في الأسواق المالية, وضع علماء الرياضيات معادلات معقدة تتعامل مع ملايين البيانات وتقوم يوميا بتنفيذ بلايين من عمليات البيع والشراء والمضاربة في الأوراق المالية بحيث تشفط الأرباح شفطا من أسواق العالم.وأصبح العالم معدا لثورة التوريق. وتضاعف حجم مضاربات المشتقات أكثر من30 ألف مرة في نحو20 سنة إلي نحو600 تريليون دولار عام.2008 وبداية من يناير2001 قام جرينسبان بإجراء12 تخفيضا متتاليا لسعر الفائدة حتي وصلت من6% إلي1% في يونيو2003 للسماح بإعداد الملعوب,وفي يونيو2004 بدأ رفع الفائدة مرة أخري في14 زيادة متتالية إلي4.5% علي مدي19 شهرا لتفجير الملعوب. وانهمكت المؤسسات المالية الأمريكية في اصطناع أوراق مالية ذات أساس مزيف,بضمان قروض عقارية لعاطلين وفقراء, مدعمة بتقييم ائتماني مصطنع ومبالغ فيه وبوثيقة تأمين ضد التوقف عن السداد من شركة تأمين ذات رأسمال تافه أصدرت الملايين من وثائق التأمين المشابهة بتريليونات الدولارات. كما انهمكت نفس المؤسسات في إقراض شركات مجهولة لم ترق للتسجيل في أسواق الأوراق المالية الرسمية مقابل سندات تتبادلها(OTC) وتخفي زيفها بتأمينها ضد التوقف عن السداد بأوراق مالية أخري(CDS) تصدرها شركات برءوس أموال تافهة. واستلزم هذا تعاون أكبر شركات التقييم المالي في العالم( مودي وستاندرد أند بورز وفيتش لأن نشاط التقييم أساس لازم للسيطرة المالية علي العالم). ثم قامت بعمل حزم( محافظ) من تلك القروض العقارية والتجارية وقروض الطلبة وديون بطاقات الائتمان وديون الدول النامية, واصدار سندات ومشتقات بضمانها, والمضاربة عليها في عملية محشوة بالمعادلات الآلية وأعمال الحاسبات.وهناك دلائل علي أنه تم إسكات الخبراء المعارضين أو التخلص منهم. كما صدرت أوامر وزارة الخزانة والرقابة علي النقد إلي أجهزة الادعاء العام في الولايات المختلفة بعدم التحقيق في بلاغات التزوير في أوراق القروض أو تحويلها إلي المحاكمة. وروجت نفس المؤسسات المالية المحترمة هذه الأوراق في كل أنحاء العالم علي أنها أوراق مالية مضمونة ومنتجة للعائد تفضل الدولارات ذات القيمة المضمحلة باستمرار.وانساق الجميع كالقطيع لشرائها. وبعد أن أصبحت ثروات الجميع في صورة هذه الأوراق المزيفة, تم فضح زيفها فتبخرت قيمتها, وانهارت الأسواق المالية في كل مكان, وتبخرت الثروات الورقية وأفلست الشركات والبنوك وبيعت بأثمان بخسة لمن يستطيع تدبير السيولة النقدية ولو بطباعاتها أو كتابتها علي شاشة الحاسبات.واختفت الثروات الدولارية أي عادت إلي مصدريها وتم إنقاذ الدولار إلي حين. وتم المزيد من تركيز الثروات في أيدي المؤسسات المالية الكبري في العالم.وجدت البنوك نفسها متورطة في أوراق مالية لا قيمة لها, وأصبحت البنوك التي لم يفتضح أمرها بعد تحت رحمة المؤسسات المالية الأمريكية. ولكن هل يستقيم أن نتهم المؤسسات المالية العالمية بالقرصنة؟ إن تاريخ القرصنة في الغرب يمثل قصة مثيرة أخري! المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم