بهدوء لم يعد مثيرا لأحد مرت الذكري السابعة والعشرون لرحيل الشاعر الكبير فؤاد حداد(1 نوفمبر1985) واقتصر الاحتفال بذكري حضوره علي مريديه وأفراد أسرته التي لم ينقطع عنها الوحي الشعري الي الآن. والمتأمل في أثر و سيرة هذا الشاعر العظيم يجد فيهما الكثير الذي يمكن التوقف أمامه بعد كل تلك السنوات, ولكني أود هنا التركيز علي فكرتين جوهريتين في العلاقة مع شعره. الاولي: تتعلق بمسألة الانصاف, ويبدو لي أن القدر ينصف المواهب الفذة خلافا لاعتقاد البعض بأن آفة حارتنا النسيان كما يقول نجيب محفوظ في رائعته أولاد حارتنا, ففؤاد حداد, الذي وصف نفسه عن جدارة ب والد الشعراء ووصفه الشاعر الكبير عبد الرحمن الابنودي ب الإمام تنبأ بأنه سيأخذ حقه من موته أو كما قال في واحدة من قصائده يا ذاكرة الشعب المصري/ مش شرط يقيموا التماثيل/ أنا واضح زي الأحلام. والآن تؤكد الايام شفافية العبارة وصدق الرؤية التي تحملها فالاجيال الجديدة تعيد قراءة شاعر المسحراتي الذي تم تهميشه بسبب مواقفه السياسية من ناحية ومن ناحية أخري لطبيعته الشخصية التي كانت تناهض الاستعراض والحضور المجاني وفي هذا السعي تستعين الاجيال الجديدة, ليس فقط بأعماله الشعرية التي اعيدت طباعتها قبل سنوات عبر الهيئة العامة لقصور الثقافة وانما بالوسائط الالكترونية التي اتاحت شعره وأغنياته واعماله الاخري وسهلت من مهمة تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي, لاسيما المسحراتي و البرنامج الاذاعي الشهير من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة الذي لحن اغنياته سيد مكاوي واخرجه للاذاعة الراحل فتح الله الصفتي وهذا النص الشعري الفريد,- الذي ادعو لاعادة انتاجه في عمل استعراضي كبير- كفيل وحده بازاحة الالتباسات التي تشيع الان بشأن الهوية المصرية, فقد كتبه حداد ردا علي نكسة1967 واستعاد فيه, ليس تاريخ القاهرة وحده وانما أرخ كذلك لمسار الشخصية المصرية في قدرتها علي العطاء, فالهوية المصرية كما تجلت في سيرة حداد ذي الاصول اللبنانية تعطي مثالا فذا علي فكرة الانفتاح علي هويات متعددة يمكن ان تنصهر في هوية جامعة وليست هوية مغلقة كما تسعي بعض التيارات الي جرنا لهذا المستنقع العفن بالاصرار علي قمع الهوية المصرية في اطار ضيق يعاني من جروح نرجسية أكثر ما يستطيع الاستجابة لتحديات النهضة المأمولة. أما الفكرة الثانية, فلا تنفصل عن الأولي لكنها ترتبط بمفهوم الاستعادة, فكل شاعر حقيقي, لابد لمتذوق الشعر أن يعيد قراءته في مراحل مختلفة من العمر, لأن عمليات اعادة القراءة تعطي فرصة للوصول الي جوهر مختبيء في النص الادبي, و شعر الإمام العظيم فؤاد حداد, من النوع الخادع, لان النبرة الايقاعية, وهي نبرة فرضتها عليه سنوات السجن الطويلة, توحي ببساطة المعني, في حين أنه وهو الصوفي العظيم حمل شعره بأكثر من طبقة, وبطريقة لا يمكن إزاحتها خلال عملية إعادة القراءة التي تصبح في كل مرة نوعا من التوليف, وتسمح بخلق حوار بين الشاعر وقارئه وهي مهمة نادرة واستثنائية لا يقدر عليها الا الشعراء الذين انفتحت تجاربهم علي هموم كونية وهو هنا يبدو مخلصا لارث المتصوفة الكبار أمثال الحلاج وابن الفارض والنفري. وأحسب ان السنوات التي اعقبت رحيل فؤاد حداد سمحت بتحرير شعره من قيود القراءة المباشرة التي تلزم النص بما ليس فيه, وتحمله بالاسقاط السياسي المباشر دون أن تلفت الي جوهر المعني, فاليوم باتت قصائده الملغزة مثل الحلزونة أو النقش باللاسلكي بمعانيها الفياضة, متعددة الدلالة تحظي بفرص أفضل في القراءة والانتشار لم تكن تحظي بها في الماضي كما أن القصائد التي مال فيها مبكرا باتجاه كتابة قصيدة النثر بالعامية المصرية بحاجة الي قراءة منصفة لا تؤكد فقط ريادته لشعر العامية وانما تكشف كذلك عن فهمه المبكر للمسارات التي مضي الشعر العربي باتجاهها وهي مسارات لم تكن خافيه عنه بسبب ثقافته الفرنسية الرفيعة التي قادته مبكرا للتعاطي مع نصوص سان جون بيرس ولوي اراجون وبول ايلوار وجاك بريفير وربما كان في هذا السعي أسبق من محاولات شعراء جماعة شعر البيروتية التي بنت حداثتها الشعرية بالكامل علي هذا الإرث الذي كان فؤاد حداد قد حرثه حرثا كاشفا عن الطاقات التي يتيحها لتجاوز الشكل التقليدي للكتابة الشعرية فنجح في استيعاب تراثه العربي بنفس قدر اصراره علي الانفتاح علي تلك النصوص واتاحة بعضها في ترجمات فريدة, من المؤسف, أنها لا تزال غير متاحة وهي مسألة تدفعنا لمطالبة المركز القومي للترجمة بتبني خطة منظمة لاعادة نشر ترجمات فؤاد حداد لتلك النصوص بمقدمات جديدة تربط بين تجربته و تجارب هؤلاء الكبار. ولعل المركز بهذه الخطة يصلح أخطاء وزارة الثقافة التي لم تبادر أي من هيئاتها للاحتفال بذكري الرجل الذي لم تنظم له حتي الان أية ندوة تليق بشعره وبدوره الإنساني الفريد.